مقصود الليث فيما يظهر أن الأحكام على ضربين، منها ما لا يسع فيه الاختلاف ومنها ما دون ذلك. وإن الخلفاء كانوا يكتبون إلي بالأقطار الأخرى من الصحابة في الضرب الأول كيلا يخالفون فيه، وإذا وقع منهم فيه خلاف كتب إليهم الخلفاء ينهو نم عنه، وأما الضرب الثاني فكانوا يقرون فيه كل مجتهد على اجتهاده؛ وأن هذه القضية من الضرب الثاني كان الخلفاء في المدينة يقضون بالشاهد واليمين وكان من بالأقطار التي سماها الليث من الصحابة لا يقضون بذلك فيما يعلمه الليث ولم يكتب إليهم الخلفاء يأمرونهم بالقضاء به، فدل ذلك أنها عندهم من الضرب الثاني، وأستشهد لذلك بما ذكره عن عمر بن عبد العزيز، وأنه لما كان في المدينة كأن فقهاءها ناظروه فقوي عنده قولهم فكان يقضي به، ثم لما كان في الشام كأن فقهاءها ناظروه فقوي عنه قولهم فصار إليه. فيرى الليث أن ما كان من الضرب الثاني فليس لمالك أن يجعل عمل أهل المدينة فيه حجة على الناس كلهم، ولا أن ينكر على من يخالفه فيه.
أقول: فهذا معنى معقول مقبول في الجملة، والمدار على الحجة، وأن حمل كلام الليث على غير هذا المعنى صار زللاً داحضاً لا رداً ناهضاً.
ونحن لم ندع أن القضاء بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق من الضرب الأول الذي لا يسع خلافه وينقص قضاء القاضي بخلافه، وإنما ادعينا أنه ثابت بالحجة وأن المخالف له مخطئ. وليس في رسالة الليث ما يدفع هذا.
وأما قول الأستاذ:«حتى أن يحيى الليثي ... » فمخالفة بعض المالكية والشافعية للإمامين إنما تدل أنه قوي عند المخالفين أنه لا يقضى بذلك، وقوته عندهم لا تستلزم قوته في نفس الأمر، والمدار على الحجة وقد اقمناها.
وأما قول الأستاذ:«فسل قضاة العصر ... » فجوابه أنها إذا روعيت العدالة الشرعية كما يجب لم يكن هناك اختلال يعتد به، وقد قضى أهل العلم بذلك ويقضون به إلى اليوم في بعض الأقطار، ولا يدرك اختلال، وإنما الاختلال في جواز القضاء بشهادة فاسقسن على ما يقول الحنفية، أو رأيت أو قال قضاة العصر قد فسد الزمان فلا يقضى بأقل من ثلاثة شهود على شرط أن تكوت القرائن مساعدة لشهادتهم؟ . وكما أن الفساد يخشى من إدعاء الباطل، فإن أشد منه يخشى من جحد الحق.