للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا يشمل الاتعاظ، والقياس العقلي والشرعي، وسياق الآية للاتعاظ، فتدل عليه عبارة، وعلى القياس إشارة ... وأما ظهور كونه - أي: الاعتبار- في الاتعاظ بالنظر إلى خصوص السبب؛ لنزول الآية المشار إليها بقوله، ولبعد أن يراد بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} بعد قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}، فقيسوا الذرة بالبر، كما هو لازم الاستدلال لعدم المناسبة، فلا يحمل كلامه تعالى عليه.

والجواب عنه ما أفاده بقوله: (فالعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب)، فانتفى الأول (وهو ظهور كونه للاتعاظ)، وبه (أي: بأن العبرة لعمومه) انتفى الثاني أيضًا؛ إذ المرتب على السبب المذكور الاعتبار الأعم منه (أي: من قياس الذرة على البر) أي: فاعتبروا الشيء بنظيره في مناطه، الظرف متعلق بنظيره؛ لما فيه من معنى الفعل في المثلات (أي: العقوبات - جمع مثلة بفتح الثاء وضمها متعلق بالاعتبار -) وغيرها.

وهذا الطريق في إثبات التكليف بالقياس أيسر من إثباته (أي: التكليف به دلالة) كما ذهب إليه صدر الشريعة (١)؛ لأن فهم الأمر بالقياس من الأمر بالاعتبار بطريق اللغة من غير اجتهاد؛ لئلا يلزم إثبات القياس بالقياس بعيد جدًّا؛ فإن من المعلوم أنه لا يفهم كل من يعرف اللغة ذلك كما أفاده بقوله: (إذ لا يُفْهم فَهْمَ اللغة) نصب على المصدرية؛ فإن المنفي إنما هو هذا النوع من الفهم لا مطلقه، (الأمر بالقياس) قائم مقام فاعل يفهم، (في الأحكام) متعلق بالقياس من الأمر بالاتعاظ.

والشارح تعقب المصنف (٢)

في هذا فليرجع إليه.


(١) يُنظر: التوضيح (٢/ ١٢٥ - ١٢٧).
(٢) المراد بالشارح: أمير حاج، والمصنف: ابن الهمام. وعبارة أمير حاج: "وهذا الطريق في إثبات التكليف بالقياس بطريق القطع من الآية أيسر من إثباته -أي التكليف به- بطريق القطع منها دلالة، كما تنزل إليه صدر الشريعة وقال: وطريقها في هذه الصورة: أن الله ذكر هلاك قوم بناء على سبب؛ وهو اعتزازهم بالقوة والشوكة، ثم أمر بالاعتبار ليكف عن مثال ذلك السبب؛ لئلا يترتب عليه مثل ذلك الجزاء. فالحاصل: أن العلم بالعلة يوجب العلم بحكمها، فكذا في الأحكام الشرعية من غير تفاوت، وهذا المعنى يفهم من لفظ (الفاء) وهي للتعليل، فيكون مفهومًا بطريق اللغة من غير اجتهاد، فيكون دلالة نص لا قياسًا؛ حتى لا يكون إثبات القياس بالقياس؛ بل في التلويح. وفيه نظر؛ لأن الفاء؛ بل صريح الشرط والجزاء لا يقتضي العلة التامة حتى يلزم أن يكون علة وجوب الاتعاظ هذه القضية السابقة، غاية ما في الباب أن يكون لها دخل في ذلك، وهذا لا يدل على أن كل من علم وجود السبب يجب عليه الحكم بوجود المسبب؛ بل ما ذكره من التحقيق مما يشك فيه الأفراد من العلماء، فكيف يجعل من دلالة النص وقد سبق أنه يجب أن يكون مما يعرفه كل من يعرف اللغة؟ ! وإلى هذا أشار المصنف بقوله: (إذ لا يفهم فهمَ اللغة الأمر بالقياس في الأحكام من الأمر بالاتعاظ). وقد أجيب: أولاً: بأن الفاء تدل على العلية في الجملة، وظاهر أن لا علة هنا لوجوب الاتعاظ سوى القضية السابقة فتكون كل العلة، وعلى تقدير التسليم لكونها لها دخل في العلة تثبت أيضًا أن لها دلالة على العلية في الجملة .. وثانيًا: بأن التحقيق الذي ذكره صدر الشريعة مما لا ينبغي أن يشك فيه عارف باللغة، فلو شك فيه واحد من أفراد العلماء فقد يكون لعدم علمه باللغة أو ممن يظهر الشك عنادًا، هذا والشرط في دلالة النص أن يكون المعنى الذي هو مناط الحكم ثابتًا في المنصوص عليه لغة بحيث يعرفه أهل اللسان، وأما في غيره فلا يشترط أن يكون مناط الحكم مما يعرفه أهل اللسان". التقرير والتحبير (٣/ ٣٢٥ - ٣٢٦).

<<  <   >  >>