للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

دعاني إلى صرف الهمة إليه ما رأيتُ من عُسر الاحتجاج بين المختلفين في مسائل الشريعة، إذ كانوا لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلّة ضرورية، أو قريبة منها، يذعن إليها المكابر ويهتدي بها المشبَّهُ عليه، كما ينتهي أهلُ العلوم العقلية في حجاجهم المنطقي والفلسفي إلى الأدلّة الضروريات والمشاهدات والأصول الموضوعة؛ فينقطعُ بين الجميع الحجاج، ويرتفع من أهل الجدل ما هم فيه من لَجاج. ورأيت علماء الشريعة بذلك أولى، وللآخرةُ خير من الأولى.

وقد يَظنُّ ظانٌّ أن في مسائل علم أصول الفقه غُنيةً لمُتطلّب هذا الغرض، بَيْد أنه إذا تمكّن من علم الأصول، رَأَى رَأيَ اليقين أن معظم مسائله مُخْتلَف فيها بين النُظَّار، مستمرٌّ بينهم الخلاف في الفروع تبعاً للاختلاف في تلك الأصول. وإن شئت فقل: قد استمر بينهم الخلاف في الفروع لأن قواعد الأصول انتزعوها من صفات تلك الفروع، إذ كان علم الأصول لم يُدوّن إلا بعد تدوين الفقه بزهاء قرنين (١)!. على أن جمعاً من المتفقّهين كان هزيلاً في الأصول، يَسيرُ


(١) اختلفت أقوال العلماء في تحديد نشأة علم أصول الفقه، وفي أول مَن دون هذا العلم ووضع قواعده. فنسبت ذلك جماعةٌ إلى فقهاء الصحابة مثل: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود. وقالوا: نزّل الإمام علي عقوبة القذف حداً على شارب الخمر، لكون متناوله إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، فاستحق عقوبة المفترين، إعمالاً منه للمآل، وسداً للذريعة في تقرير الأحكام.
وروَوْا عن ابن مسعود أن عدّة الحامل المتوفّى عنها زوجها وضع حملها، لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وأنه علّل هذا بقوله: أشهد أن سورة النساء الصغرى - الطلاق - نزلت بعد سورة النساء الكبرى - البقرة -. يلمع بهذا إلى أن المتأخّر يأتي ناسخاً أو مخصِّصاً عند اختلاف الحكم.
ولا شك أن هذين الموقفين وما أشبههما كان قد تلقاها الصحابة، رضوان الله عنهم، فيما تلقوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي عصر التابعين ظهرت طائفتان من =

<<  <  ج: ص:  >  >>