الطريق الثالث: السنة المتواترة. وهذا الطريق لا يوجد له مثال إلّا في حالين:
الحال الأول: المتواتر المعنوي الحاصل من مشاهدة عموم الصحابة عملًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيحصل لهم علم بتشريع في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين. وإلى هذا الحال يرجع قسمُ المعلوم من الدين بالضرورة، وقسمُ العمل الشرعي القريب من المعلوم ضرورة، لمثل مشروعية الصدقة الجارية المعبَّر عن بعضها بالحُبُس. وهذا العمل هو الذي عناه مالك حين بلغه: أن شريحاً يقول بعدم انعقاد الحُبُس، ويقول أن لا حَبس عن فرائض الله. فقال مالك:"رحم الله شريحاً تكلّم ببلاده - يعني الكوفة - ولم يَرِد المدينة، فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين بعدَهم وما حبَّسوا من أموالهم [لا يطعن فيها طاعن]، وهذه صدقات رسول الله سبعةُ حوائط. وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبراً"(١) اهـ. وأمثلة هذا العمل في العبادات كثيرة، ككون خطبة العيدين بعد الصلاة.
الحال الثاني: تواتر عملي، يحصل لآحاد الصحابة من تكرر مشاهدة أعمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث يستخلص من مجموعها مقصداً شرعياً. ففي صحيح البخاري: عن الأزرق بن قيس قال: "كنا على شاطئ نهر بالأهواز، قد نضب عنه الماء. فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فقام يصلي وخلّى فرسه، فانطلقت الفرس. فترك صلاته وتبعها حتى أدركها فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته. وفينا رجل له رأي فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس.