ثم هو بعد الاضطلاع بهذا العمل العظيم لا يجد الحاصل في نفسه سواءً في اليقين بتعيين مقصد الشريعة، لأن قوة الجزم بكون الشيء مقصداً شرعياً تتفاوت بمقدار فيض ينابيع الأدلة ونضوبها، وبمقدار وفرة العثور عليها واختفائها. وليس هذا التَّوَفُّر وضده بعالة على مقدار استفراغ جهد الفقيه الناظر واستكمال نشاطه، بل إن الأدلة علي ذلك متفاوتةُ الكثرة والقلة في أنواع التشريعات بحسب سعة وضيق الزمان الذي عرض في وقت التشريع، وبحسب كثرة وقلة الأحوال التي عرضت للأمة في وقت التشريع. ألا ترى أن مسائل العبادات والآداب الشرعية أكثرُ أدلةً وآثاراً عن الشارع من مسائل المعاملات والنوازل؟ إذ كان معظم التشريع قبل الهجرة مقصوراً على النوعين الأولين دون الثالث، لأن جهل الأمة في مبدأ أمرها بمعرفة الله ورسله واليوم الآخر والعبادات كان أعرق وأشد من جهلهم بطرائق الإنصاف في المعاملة.
وعلى هذا فالحاصل للباحث عن المقاصد الشرعية قد يكون علماً قطعياً أو قريباً من القطعي، وقد يكون ظناً. ولا يعتبر ما حصل للناظر من ظن ضعيف أو دونه، فإن لم يحصل له من عمله سوى هذا الضعيف فليفرضه فرضاً مجرداً ليكون تهيئة لناظر يأتي بعده، كما أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال:"فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"(١).
(١) الحديث طويل، ورد بصيغ مختلفة متقاربة. انظر ٣ كتاب العلم، ٩ باب قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رب مبلغ أوعى من سامع، ليبلغ الشاهد منكم الغائب، عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه". خَ: ١/ ٢٤ - ٢٥؛ ٢٥ كتاب الحج، ١٣٢ باب الخطبة أيام منى، ح ٣. خَ: ٢/ ١٩١؛ ٧٣ كتاب الأضاحي، ٥ باب من قال: الأضحى يوم النحر. خَ: ٦/ ٢٣٥ - ٢٣٦؛ ٩٣ كتاب الفتن، ٨ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترجعوا بعدي كفاراً"، ح ٣. =