للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولقد أبدع في الإفصاح عن معنى الفطرة والتنبيه على وجوب الحذر من اختلاطها بالمدركات الباطلة المتأصّلة في النفوس بسبب عوارض عرضت للبشر، مثل: العوائد الفاسدة المألوفة، ودعوة أهل الضلالات إليها. وفي كلامه ما ينبّه على أن المخاطبين بتمييز الفطرة عن غيرها هم العلماء والحكماء أهل العقول الراجحة، فلا يعوز هؤلاء تحقيق معنى الفطرة وتمييزها عما يلتبس بها من المدركات والوجدانات. على أنّه إن عسر على أحدهم تحقيق معنى فطري دقيق، أو شديدٍ التباسُ غيره به، وخاف هوى نفسه أن يخيّل له الأمر غير الفطري، فعليه حينئذ أن يعمِّق النظرَ طويلاً، وأن يعتبر بشهادة العلماء الأفاضل المشهود لأفكارهم بكثرة العصمة من الخطأ.

وقد استبان لك أن الفطرة النفسية للإنسان هي الحالة التي خلق الله عليها عقل النوع الإنساني سالماً من الاختلاط بالرعونات والعادات الفاسدة. فهي المراد من قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (١).

وهي صالحة لصدور الفضائل عنها كما شهد به قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (٢). فلا شك أن المراد بالتقويم في الآية تقويم العقل الذي هو مصدر العقائد الحقة والأعمال الصالحة (٣). وأن


(١) الروم: ٣٠.
(٢) التين: ٤ - ٦.
(٣) اقتصر المؤلف هنا على أحد مدلولي التقويم الذي يقتضيه السياق. وفي تفسيره ذكرَ المعنيين. وعرف الأول - وهو المعنى العام - بقوله: التقويم جعل الشيء في قَوام، أي عدلاً وتسوية، وحُسن التقويم: أكملهُ وأنيقُه بنوع الإنسان، أي أحسن تقويم له. وهذا يقتضي أنه تقويم خاص =

<<  <  ج: ص:  >  >>