للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يعتدي عليها عمداً، والغضبَ ممن يعتدي خطأ. فتندفع إلى الانتقام، وهو انتقام لا يكون عادلاً أبداً, لأنه صادر عن حنق وغضب تختل معهما الرويّة، وينحجب بهما نور العدل. فإن وجد المجنيُّ عليه أو أنصارهُ مقدرةً على الانتقام لم يتأخروا عنه، وإن لم يجدوها طوَوا كشحاً على غيظٍ حتى إذا وجدوا مكنة بادروا إلى الفتك. كما قال الله تعالى: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (١)، فلا تكاد تنتهي الثارات والجنايات ولا يستقر حالُ نظام للأمة. فكان من مقاصد الشريعة أن تتولّى هي هذه الترضيةَ، وتجعل حداً لإبطال الثارات القديمة. ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع: "وإن دماء الجاهلية موضوعة" (٢).

وقد كان مقصد إرضاء المجني عليه مع العدل ناظراً إلى ما في نفوس الناس من حب الانتقام. فلذا أبقت الشريعةُ حقَّ تسلّم أولياء القتيل قاتلَ صاحبهم بعد الحكم عليه من القاضي بالقتل فيقودونه بحبل في يده إلى موضع القصاص تحت نظر القضاء، وهو المسمّى بالقَوَد، ترضية لهم بصورة منزهة كما كانوا يفعلونه من الحكم عليه بأنفسهم.

وهذا المعنى - الذي هو إرضاءَ المجني عليه - أعظمُ في نظر الشريعة من معنى تربية الجاني، ولذلك رجّح عليه حين لم يمكن الجمعُ بينهما وهي صورة القصاص. فإن معنى إصلاح الجاني فائت فيها، ترجيحاً لإرضاء المجني عليه.

ولذلك لا ينبغي أن يختلف العلماء خلافهم المعروف في مسألة رضي أولياء الدّم بالصلح بالمال عن القصاص إذا كان مال الجاني


(١) الإسراء: ٣٣.
(٢) انظر ١٥ كتاب الحج، ١٩ باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، خطبة حجة الوداع، ح ١٤٧. مَ: ١/ ٨٨٦ - ٨٩٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>