للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأبعد أثراً في حصول ذلك التحوّل. فقد أكّد المؤرِّخون أن الدولة العثمانية التي كانت أحوالها تسوء يوماً بعد يوم لم تسْعَ بجدٍّ إلى تطوير البلاد التابعة لها نحو الأفضل، وأنّى لها ذلك؟! ولكنها تركتها في الواقع ضحيّة لمشاكلها المزمنة، وأنظِمتِها الاجتماعية والإقطاعية الظالمة، حتى إذا جابهتها وجابهت الولايات المرتبطة بها المعركة العاتية - معركة التقدّم على كل الجبهات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية - وجدت السلطنة نفسها في أعقاب الحرب المدمّرة، وإثر المخططات الماكرة، تمثل عالماً واسعاً ممتداً بين القارات الآسيوية والأوروبية والإفريقية يتكوَّن من دول ممزَّقة وشعوب مفتَّتة تشكو جميعُها الفقر والجهل والمرض والتخلف وقلة الحيلة (١). واختار الكماليون الانحسار في حدودهم الترابية التركية الضيّقة، وقطعوا صِلاتهم بشعوب ودول الخلافة. وقامت الجمهورية عقب الإمبراطورية، وتنكّروا لكل المقوّمات غير الطورانية، واندفعوا يقلّدون الغرب، ويأتمّون به سياسياً وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً. وكأنهم لم تكن تربطهم صلة بمقوّمات الحضارة الشرقية الإسلامية التي دانوا لها وأقاموا عليها قروناً طوالاً.

وإذا التفتنا إلى الولايات أو الإيالات، التي كانت مرتبطة بها ثم انفصلت عنها، لمسنا آثار التطوّرات والأحداث المتسارعة بها صدًى لما كان يجري فيها. وفي تونس التي كان يحكمها من قِبَلِ الدولة العليَّة محمد الصادق باشا باي الثاني عشر للدولة الحسينية، عزَل هذا الحاكم وزيرَه الأكبر المصلح خير الدين باشا صاحب كتاب أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، كما فصَله عن رئاسة اللجنة


(١) فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام: ١٨٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>