للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن السلطة الجديدة الفرنسية، رغم عنادها وشدّتها وما ابتدعته من ألوان التصرف الاستعماري البغيض، لم تقوَ على اقتلاع الشعب من جذوره، ولا تمكّنت من القضاء على هويته، ولا أفلحت في إغرائه وتلهيته عن مقوِّمات عزّته، أو صرفه عن أمجاده وبطولاته، أو تهوين إسهاماته الحضارية المتميّزة في نفسه.

أجل قامت السياسة الفرنسوية على الاستحواذ على كل شيء، وعلى الاستبداد بكل شيء. فالسلطة السياسية والإدارية والاقتصادية والأمنية كلها بيدها لا يمثل التونسي من ذلك شيئاً .. فليست الهياكل السلطوية سوى أجساد خاوية جامدة يحرّكها المستعمر، ويقتصر دورها على تنفيذ إرادة المحتلَّ فيما يعود إليها من شؤون. فلا إرادة ولا قدرة لها، وإنما هي مجرد آلات وهمية طيِّعة، لا تتجاوز وظيفتها ما أنيط بها من ردِّ الأمور - إذا دقَّت - إلى "الحاكم الأجنبي" السلطة العليا، ليزنها بميزان نظره ورغباته وتقديره للمصالح. فلا الباي ولا وزراؤه ولا العمال (الولاة) ولا مساعدوهم يسبِقون بالقول المقيمَ العام والكاتب العام والمراقبين وأعوانهم في شيء. والمحاكم الفرنسية والمختلطة تتقدم القضاء التونسي في جميع صوره ودرجاته. وشؤون الدولة الخارجية والأمنية والعسكرية ونفوذها كلها من خصائص دولة الحماية.

وتزيد من ويلات هذا الوضع البغيض عمليات السلب وانتزاع الأراضي الزراعية والأوقاف العامة والأملاك من أهليها بشتى الطرق والوسائل. والإمعان في تفقير المواطنين، ونشر الذلَّة والمهانة بينهم، وإقامة الأنصاب والتماثيل في الشوارع ومفترقات الطرق، إشادة بالسلطات الاستعمارية الغاصبة القاهرة، وتذكيراً وتأكيداً لسياسات القمع الظاهرة المتميَّزة في كل مجالات الحياة في أرض الحماية، من

<<  <  ج: ص:  >  >>