وتدبُّر هذه الألوان الفنية الرائعة من الشعر يعود بنا إلى التعرف على شخصية بشار الأدبية ومنزلتها بين أعلام الشعر في الأدب العربي. فهو المحافظ على النهج العربي السليم، الداعم له، والسائر على وفق قوانينه، مع ما ابتكره من صور، وعرض له من أغراض، طوّر بها الشعر وناسب بينها وبينه بما يليق بعصره، ويتماشى مع الحداثة التي كان يتطلع إليها كثير من أهل الفن في ذلك الزمن.
وأكثر شعر بشار ممّا جاشت به نفسه، وسمت به روحه، ورشحت به مواهبه. لم ينظم منه أبداً عن طلب، ولا أجاب فيه لِاقتراح أحد إلا قليلاً.
ومما يُستثنى من هذا الوصف ما جرت به فكاهات المجالس، أو ذُكر في النوادر، أو سَمَحت به نفس شاعر يجيز. فمن ذلك طَلَب المهدي من بشار أن يقول في الحب شعراً، يجعله فيه قاضياً بين المحبّين من غير تسمية أحد ولا إطالة. فقال على البديهة:
اجْعلِ الحُبَّ بين حِبِّي وبيني ... قاضياً، إنَّني به اليوم راضِ
فاجتمعنا، فقلت: يا حِبَّ نفسي ... إنّ عيني قليلة الاغتماض
أنت عذّبتني، وأنحَلتَ جِسمي ... فارحم اليوم دائم الأمراض
قال لي: لا يحلُّ حكمي عليها ... أنت أولى بالسّقم والإحراض
قلت لمّا أجابني بهواها: ... شمل الجورُ في الهوى كل قاض (١)
ومن أبرز أنواع الشعر وأشهرها الأراجيز. وهي لون فريد بديع صعب من الشعر. تفرد به كبار الحذاق من الشعراء، وأهل المعرفة باللغة، والإخباريون، وأصحاب القدرة على نسجه.