للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشريعة يقتضي أنه ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة، ولو قلّت على البعد، ولا مفسدة إلا وفيها مصلحة وإن قلّت على البعد (١). وقال أبو إسحاق: إن المصالح الدنيوية، من حيث هي موجودة في هذا العالم، لا تخلص لأن تكون مصالح محضة ... لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق، قلّت أو كثرت، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها. فإن المصالح لا تنال إلا بكد وتعب، كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمقاصد محضة من حيث مواقع الوجود، إذ ما من مفسدة تُفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير (٢). ويمضي في تقرير هذا قائلاً: إن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين، والاختلاط بين القبيلين. فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك. وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق. وأصل ذلك الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص (٣). قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (٤) وقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (٥).

والفريق الثاني: ذهب إلى تقرير وجود المصلحة المحضة وكذا المفسدة المحضة. ولقد صرح هذا الإمامان العز بن عبد السلام ومحمد الطاهر ابن عاشور. قال أولهما: إن تحصيل المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وإن تقديم أرجح المصالح فأرجحها ودرء أرجح المفاسد فأفسدها محمود حسن (٦). وقد ورد في السُّنة ما يدل على ذلك، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حُفَّتْ الجنة بالمكاره، وحُفَّتْ النار بالشهوات".


(١) تنقيح الفصول: ١١ - ١٤.
(٢) الموافقات: (٣) ٢/ ٢٦.
(٣) الموافقات: (٣) ٢/ ٢٦.
(٤) سورة الأنبياء، الآية: ٣٥.
(٥) سورة هود، الآية: ٧.
(٦) قواعد الأحكام: ١/ ٥، ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>