من غاب عنه غلامه بمال عظيم مدة سنين، حتى أضرّ به العدم، فقدم عليه من غير انتظار له بماله كله، وقد كسب أضعافه، كيف تكون سكرته؟
ومن أقوى أسباب ما نحن فيه سماع الأصوات المطربة بالإنشادات بالصفات النبوية المغربة المعربة إذا صادفت محلّا قابلا فلا تسأل عن سكرة السامع، وهذا السكر يحدث عندها من جهتين: إحداهما أنها فى نفسها توجب لذة قوية ينغمر منها العقل، الثانية: أنها تحرك النفس إلى نحو محبوبها وجهته، فتحصل بتلك الحركة والشوق والطلب مع التخيل للمحبوب وإحضاره فى النفس، وإدناء صورته إلى القلب واستيلائها على الفكرة لذة عظيمة تغمر القلب، فتجتمع لذة الألحان ولذة الأشجان، فتسكر الروح سكرا عجيبا أطيب وألذ من سكر الشراب، وتحصل له به نشأة ألذ من نشأة الشراب.
وقد ذكر الإمام أحمد وغيره: أن الله تعالى يقول لداود: مجدنى بذلك الصوت الذى كنت تمجدنى به فى الدنيا، فيقول: كيف وقد أذهبته فيقول: أنا أرده عليك، فيقوم عند ساق العرش ويمجده، فإذا سمع أهل الجنة صوته استفرغ نعيم أهل الجنة. وأعظم من ذلك: إذا سمعوا كلام الرب جل جلاله وخطابه لهم، فإذا انضاف إلى ذلك رؤية وجهه الكريم الذى يغنيهم لذة رؤيته عن رؤية الجنة ونعيمها، فأمر لا تدركه العبارة ولا تحيط به الإشارة، وهذه صفة لا تلج كل أذن، وصيب لا تحيا به كل أرض، وعين لا يشرب منها كل وارد، وسماع لا يطرب عليه كل سامع، ومائدة لا يجلس عليها كل طفيلى، أشار إليه فى المدارج.
فمن اتصف بهذه العلامات التى ذكرتها فهو كامل المحبة لله ورسوله، ومن خالف بعضها فهو ناقص المحبة، ولا يخرج عن اسمها بدليل قوله- صلى الله عليه وسلم- للذى حده فى الخمر- لما لعنه بعضهم وقال: ما أكثر ما يؤتى به- فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله»«١» ، فيخبر أنه يحب الله
(١) مرسل: أخرجه عبد الرزاق فى «مصنفه» (٣٥٥٢ و ١٧٠٨٢) عن زيد بن أسلم مرسلا.