للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فحكى الإمام فخر الدين الرازى عن بعض المحققين أنه قال: إذا اشتغل الإنسان بمثل هذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية، ومتى حصل ذلك الانكشاف صارت الدنيا بالكلية حقيرة، وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها ووجدانها، فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها، وعند ذلك يزول الحزن والغم. وقال أهل السنة: إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات، كأنه يقول: تجب على عبادتك سواء أعطيتنى الخيرات أو ألقيتنى فى المكروهات.

وقال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ «١» . فأمره تعالى- صلى الله عليه وسلم- بالعبادة والمصابرة على مشاق التكاليف فى الإنذار والإبلاغ. فإن قلت: لم لم يقل: واصبر على عبادته، بل قال: وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ «٢» .

فالجواب: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن فى قولك للمحارب: اصطبر لقرنك أى: اثبت له فيما يورده عليك من مشاقه. والمعنى: أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها قاله الفخر الرازى وكذا البيضاوى.

وقال تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ «٣» . فأول درجات السير إلى الله عبودية الله تعالى، وآخرها التوكل عليه، وإذا كان العبد لا يزال مسافرا إلى ربه لا ينقطع سيره إليه ما دام فى قيد الحياة، فهو محتاج إلى زاد العبادة لا يستغنى عنه البتة، ولو أتى بأعمال الثقلين جميعا، وكلما كان العبد إلى ربه أقرب كان جهاده إلى الله أعظم، قال تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ «٤» ولهذا كان النبى- صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق اجتهادا «٥» وقياما بوظائف العبادة، ومحافظته عليها إلى أن توفاه الله تعالى. وتأمل أصحابه- رضى الله عنهم- فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب مقاما عظم جهادهم واجتهادهم.


(١) سورة مريم: ٦٥.
(٢) سورة مريم: ٦٥.
(٣) سورة هود: ١٢٣.
(٤) سورة الحج: ٧٨.
(٥) لعل الصواب: جهادا.