للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلزمت شريعته من جاء بعده، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى، بل الصحيح أنه لم يكن لنبى دعوة عامة إلا لنبينا- صلى الله عليه وسلم-. انتهى ملخصا من كلام القاضى عياض، وهو كلام حسن بديع، لكن قوله: فهذه جملة المذاهب، فيه نظر، لأنه بقى منها شئ، فقد قيل شريعة آدم أيضا، وهو محكى عن ابن برهان، وقيل جميع الشرائع. حكاه صاحب «المحصول» من المالكية.

وأما قول من قال: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان على شريعة إبراهيم، وليس له شرع منفرد به، وأن المقصود من بعثته- صلى الله عليه وسلم- إحياء شرع إبراهيم، وعول فى إثبات مذهبه على قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «١» فهذا قول ساقط مردود، لا يصدر مثله إلا عن سخيف العقل كثيف الطبع.

وإنما المراد بهذه الآية الاتباع فى التوحيد، لأنه لما وصف إبراهيم- عليه السّلام- فى هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال: إِنْ أَتَّبِعُ «٢» كان المراد منه ذلك. ومثله قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «٣» وقد سمى الله تعالى فيهم من لم يبعث ولم يكن له شريعة تخصه كيوسف بن يعقوب. على قول من يقول إنه ليس برسول «٤» . وقد سمى الله تعالى جماعة منهم فى هذه الآية وشرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها، فدل على أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد وعبادة الله تعالى.

فإن قيل: النبى- صلى الله عليه وسلم- إنما نفى الشرك وثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية، وإذا كان كذلك لم يكن متابعا لأحد، فيمتنع حمل قوله: إِنْ أَتَّبِعُ «٥» على هذا المعنى، فوجب حمله على الشرائع التى يصح حصول المتابعة فيها.


(١) سورة النحل: ١٢٣.
(٢) سورة النحل: ١٢٣.
(٣) سورة الأنعام: ٩٠.
(٤) وذلك على اعتبار من يفرق بين (الرسول) و (النبى) على أن الرسول من أوحى إليه بشئ وأمر بتبليغه، والنبى من جاء بإحياء شريعة رسول سبقته.
(٥) سورة النحل: ١٢٣.