وقد حكى مما ذكره فى «الإحياء» عن أبى بكر الدينورى: أن عبدا أسود قتل جمالا كثيرة بطيب نغمته إذا حداها، وكانت محملة أحمالا ثقيلة، فقطعت مسيرة ثلاثة أيام فى ليلة واحدة، وأنه حدا على جمل غيرها بحضرته، فهام الجمل وقطع حباله وحصل له ما غيبه عن حسه، حتى خر لوجهه. فتأثير السماع محسوس، ومن لم يحركه فهو فاسد المزاج، بعيد العلاج، زائد فى غلظ الطبع وكثافته على الجمال. وإذا كانت هذا البهائم تتأثر بالنغمات، فتأثير النفوس الإنسانية أولى. وقد قال:
نعم لولاه ما ذكر العقيق ... ولا جابت له الفلوات نوق
نعم أسعى إليك على جفونى ... تدانى الحى أو بعد الطريق
إذا كانت تحن لك المطايا ... فماذا يفعل الصب المشوق
فزبدة السماع تلطيف السر، ومن ثم وضع العارف الكبير سيدى على الوفوى حزبه المشهور على الألحان والأوزان اللطيفة، تنشيطا لقلوب المريدين وترويحا لأسرار السالكين، فإن النفوس- كما قدمناه- لها حظ من الألحان، فإذا قيلت هذه الواردات السنية الفائضة من الموارد النبوية المحمدية بهذه النغمات الفائقة والأوزان الرائقة، تشربتها العروق، وأخذ كل عضو نصيبه من ذلك المدد الوفوى المحمدى، فأثمرت شجرة خطاب الأزل بما سقيته من موارد هذه اللطائف عوارف المعارف.
تنبيه: زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد من التلاوة وأظهر تأثيرا.
والحجة عن ذلك: أن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة، ولا تحتمله صفاتها المخلوقة، ولو كشف للقلوب ذرة من معناه لدهشت وتصدعت وتحيرت، والألحان مناسبة للطباع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، والشعر نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان والأصوات بما فى الأبيات من الإشارات واللطائف، شاكل بعضها بعضا فكان أقرب إلى الحظوظ وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق. قاله أبو نصر السراج «١» .
(١) هو عبد الله بن على الطوسى أبو نصر السراج زاهد صوفى على طريقة السنة. توفى سنة (٣٧٨ هـ) . الأعلام (٤/ ١٠٤) ، شذرات الذهب (٣/ ٩١) ، معجم المطبوعات (١٠١٧) .