للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وما زال- صلى الله عليه وسلم- يعرض باقتراب أجله فى آخر عمره، فإنه لما خطب فى حجة الوداع قال للناس: «خذوا عنى مناسككم، فلعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا» وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع «١» .

فلما رجع- صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى «خما» فى طريقه بين مكة والمدينة، فخطبهم وقال: «أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتينى رسول ربى فأجيب» ، ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته «٢» .

قال الحافظ ابن رجب: وكان ابتداء مرضه- صلى الله عليه وسلم- فى أواخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما فى المشهور. وكانت خطبته التى خطب بها المذكورة فى حديث أبى سعيد الذى قدمته فى ابتداء مرضه الذى مات فيه، فإنه خرج- كما رواه الدارمى- وهو معصوب الرأس بخرقة، حتى أهوى إلى المنبر فاستوى عليه فقال: «والذى نفسى بيده، إنى لأنظر إلى الحوض من مقامى هذا، ثم قال: إن عبدا عرضت عليه الدنيا» .. إلخ، ثم هبط عنه فما رؤى عليه حتى الساعة.

فلما عرّض- صلى الله عليه وسلم- على المنبر باختياره اللقاء على البقاء، ولم يصرح، خفى المعنى على كثير ممن سمع، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به، ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ «٣» ، وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول- صلى الله عليه وسلم-، فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكّن الرسول- صلى الله عليه وسلم- جزعه، وأخذ فى مدحه والثناء عليه على المنبر، ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف فى خلافته فقال:

«إن أمنّ الناس على فى صحبته وماله أبو بكر- رضى الله عنه-» ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة


(١) تقدم.
(٢) تقدم.
(٣) سورة التوبة: ٤٠.