للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهذا فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال:

أنا النبى، والنبى لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، بل أنا متيقن أن الذى وعدنى الله به من النصر حق، فلا يجوز علىّ الفرار.

وأما ما فى مسلم عن سلمة بن الأكوع من قوله: «فأرجع منهزما» إلى قوله: «مررت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهزما» فقال: «لقد رأى ابن الأكوع فزعا» «١» فقال العلماء: قوله منهزما حال من ابن الأكوع- لا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما صرح أولا بانهزامه، ولم يرد أن النبى- صلى الله عليه وسلم- انهزم، وقد قالت الصحابة كلهم: إنه- عليه السّلام- ما انهزم ولم ينقل أحد قط أنه انهزم فى موطن من المواطن. وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه- صلى الله عليه وسلم-، ولا يجوز ذلك عليه، بل كان العباس وأبو سفيان بن الحارث آخذين ببغلته يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو.

وقد تقدم فى غزوة أحد ما نسب لابن المرابط، من المالكية، مما حكاه القاضى عياض فى الشفاء: أن من قال إن النبى- صلى الله عليه وسلم- هزم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وأن العلامة البساطى تعقبه بما لفظه: هذا القائل إن كان يخالف فى أصل المسألة يعنى: حكم الساب، فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته فمشكل. انتهى.

قال بعضهم: وقد كان ركوبه- صلى الله عليه وسلم- البغلة فى هذا المحل الذى هو موضع الحرب والطعن والضرب تحقيقا لنبوته، لما كان الله تعالى خصه به من مزيد الشجاعة وتمام النبوة، وإلا فالبغال عادة من مراكب الطمأنينة، ولا يصلح لمواطن الحرب فى العادة إلا الخيل فبين- صلى الله عليه وسلم- أن الحرب عنده كالسلم قوة قلب وشجاعة نفس وثقة وتوكلا على الله تعالى، وقد ركبت الملائكة فى الحرب معه- صلى الله عليه وسلم- على الخيل لا غير لأنها بصدد ذلك عرفا دون غيرها من المركوبات، ولهذا لا يسهم فى الحرب إلا للخيل، والسر فى ذلك أنها المخلوقة للكر والفر بخلاف البغال والإبل. انتهى.


(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٧٧٧) فى «الجهاد والسير» ، باب: فى غزوة حنين.