فى وجهه تألفا له ليسلم قومه، لأنه كان رئيسهم. وقد جمع هذا الحديث كما قال الخطابى علما وأدبا، وليس قوله- صلى الله عليه وسلم- فى أمته بالأمور التى يسمهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم فى بعض، بل الواجب عليه- صلى الله عليه وسلم- أن يبن ذلك ويفصح به، ويعرف الناس أمرهم فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة. ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه، لتقتدى به أمته فى اتقاء شر من هذا سبيله وفى مداراته ليسلموا من شره وغائلته. وقال القرطبى: فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة فى دين الله.
ثم قال تبعا للقاضى حسين: والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهو مباحة وربما استحسنت، والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبى- صلى الله عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق فى مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقدير الإشكال ولله الحمد. وقال القاضى عياض: لم يكن عينية- والله أعلم- حينئذ أسلم، فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا، فأراد النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه فى حياة النبى- صلى الله عليه وسلم- وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به- صلى الله عليه وسلم- من علامات النبوة، وأما إلانة القول بعد أن دخل فعلى سبيل الائتلاف وفى فتح البارى: أن عيينة ارتد فى زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح فى عهد عمر. انتهى.
«وما انتقم- صلى الله عليه وسلم- لنفسه»«١» . رواه البخارى. فإن قلت: قد صح أنه- صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل عقبة بن أبى معيط وعبد الله بن خطل وغيرهما ممن كان يؤذيه- صلى الله عليه وسلم- وهذا ينافى قوله:«وما انتقم لنفسه» . فالجواب: أنهم كانوا مع
(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٦٠) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٢٧) فى الفضائل، باب: مباعدته- صلى الله عليه وسلم- للآثام واختياره من المباح أسهله.