للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نعم كان- صلى الله عليه وسلم- يختار ذلك مع إمكان حصول التوسع والتبسط فى الدنيا له، كما أخرج الترمذى من حديث أبى أمامة، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عرض على ربى ليجعل لى بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا، يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» «١» وحكمة هذا التفصيل الاستلذاذ بالخطاب، وإلا فالله تعالى عالم بالأشياء جملة وتفصيلا.

وعن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وجبريل على الصفا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا جبريل والذى بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفة من دقيق، ولا كف من سويق» ، فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدة من السماء أفزعته فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أمر الله القيامة أن تقوم؟ قال: لا، ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حين سمع كلامك، فأتاه إسرافيل فقال: إن الله سمع ما ذكرت فبعثنى إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرنى أن أعرض عليك أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة فإن رضيت فعلت، فإن شئت نبيّا ملكا، وإن شئت نبيّا عبدا، فأومأ إليه جبريل أن تواضع فقال: بل نبيّا عبدا ثلاثا» «٢» ، رواه الطبرانى بإسناد حسن.

فانظر إلى همته العلية كيف عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأباها، ومعلوم أنه لو أخذها لأنفقها فى طاعة ربه، فأبى ذلك واختار العبودية المحضة، فيا لها من همة شريفة رفيعة ما أسناها ونفس زكية كريمة ما أبهاها، ولله در صاحب بردة المديح حيث قال:

وراودته الجبال الشم من ذهب ... عن نفسه فأراه أيما شمم

وأكدت زهده فيها ضرورته ... إن الضرورة لا تعدو على العصم

وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم


(١) ضعيف: أخرجه الترمذى (٢٣٤٧) فى الزهد، باب: ما جاء فى الكفاف والصبر عليه، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(٢) قلت: انظر «مجمع الزوائد» (٩/ ١٩، ٢٠) .