محبته، وبذلوا مهجهم وأرواحهم فى نصرته، ونصبوا وجوههم لوقع السيوف فى إعزاز كلمته، بلا دنيا بسطها لهم، ولا أموال أفاضها عليهم، ولا عوض فى العاجل أطمعهم فى نيله يرجونه، أو ملك أو شرف فى الدنيا يحوزونه، بل كان من شأنه- صلى الله عليه وسلم- أن يجعل الغنى فقيرا، والشريف أسوة الوضيع، فهل يلتئم مثل هذه الأمور، أو يتفق مجموعها لأحد هذا سبيله، من قبيل الاختيار العقلى والتدبير الفكرى، لا والذى بعثه بالحق، وسخر له هذه الأمور، ما يرتاب عاقل فى شىء من ذلك، وإنما هو أمر إلهى، وشىء غالب سماوى، ناقض للعادات، يعجز عن بلوغه قوى البشر، ولا يقدر عليه إلا من له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
ومن دلائل نبوته- صلى الله عليه وسلم- أنه كان أميّا، لا يخط كتابا بيده ولا يقرؤه، ولد فى قوم أميين، ونشأ بين أظهرهم فى بلد ليس بها عالم يعرف أخبار الماضين، ولم يخرج فى سفر ضاربا إلى عالم فيعكف عليه، فجاءهم بأخبار التوراة والإنجيل والأمم الماضية، وقد كان ذهبت معالم تلك الكتب، ودرست وحرفت عن مواضعها، ولم يبق من المتمسكين بها وأهل المعرفة بصحيحها وسقيمها إلا القليل، ثم حاجّ كل فريق من أهل الملل المخالفة له بما لو احتشد له حذاق المتكلمين وجهابذة النقاد المتفننين لم يتهيأ لهم نقض ذلك. وهذا أدلّ شىء على أنه أمر جاءه من عند الله تعالى.
ومن ذلك، القرآن العظيم، فقد تحدى بما فيه من الإعجاز، ودعاهم إلى معارضته والإتيان بسورة من مثله، فنكلوا عنه وعجزوا عن الإتيان بشىء منه.
قال بعض العلماء: إن الذى أورده- صلى الله عليه وسلم- على العرب من الكلام أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب فى الآية، وأوضح فى الدلالة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورؤساء البيان والمتقدمين فى اللسن بكلام مفهوم المعنى عندهم، فكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح عند إحياء الموتى، لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه، ولا إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه، وقريش كانت تتعاطى الكلام