للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: «لا ينتطح فيها عنزان» «١» أى لا يجرى فيها خلف ولا نزاع، فإن فى هذه الحكاية ونظائرها نظرا واضحا لقيام الكفر بالمحكى عنهم والزيادة منهم، وقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- أنه لا عصمة لأحد من الناس بعد دعواهم إلى الإسلام إلا بالإسلام، فكل منهم مهدر الدم إلا من عصم الله منهم بالإسلام. وإنما النافع له فى مقام الاستدلال ذكر من طرأ عليه من المسلمين وصمة الارتداد بالسب على القول بكونه ردة، فرجع إلى الإسلام وتاب. هذا هو محل النزاع وموضع الاستدلال لكل من المتنازعين.

وأما ذكر كافر أصلى بلغته دعوة النبى- صلى الله عليه وسلم- وامتنع من إجابته وحاربه بيده ولسانه فلا نزاع فى إهدار دمه قطعا، لا سيما وقد نقل عن هذه المرأة الكافرة أنها كانت تعيب الإسلام، وتؤذى النبى- صلى الله عليه وسلم- وتحرض عليه، فاجتمع فيها موجبات القتل إجماعا.

فقد تبين مما ساقه القاضى عياض أن أمره- صلى الله عليه وسلم- بقتل سابه إنما نقل عن الكفرة، ولم ينقل أنه- صلى الله عليه وسلم- قتل مسلما بسببه، وإنما كان ذلك فى أهل الكفر والعناد، فلو نقل فلا يتعين كونه حدّا، لاحتمال أن يكون قتله كفرا، وقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «٢» فأعلمنا أن ما وراء الشرك فى حيز إمكان المغفرة، وقال تعالى:

إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً «٣» «٤» .

فإن قلت: هذا بالنظر إلى ظلم النفس وحقوق الله تعالى لا بالنظر إلى حقوق العباد، لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة. وهذا فى حق النبى- صلى الله عليه وسلم- وليس لنا أن نسقطه لأنه لم يرد إذنه فى ذلك بخلافه هو- صلى الله عليه وسلم- فإن له ذلك.


(١) ذكره التقى الهندى فى «كنز العمال» (٣٥٤٩١) ، وعزاه لابن عساكر.
(٢) سورة النساء: ٤٨.
(٣) سورة الزمر: ٥٣.
(٤) قلت: قد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية كتاب مستقلا فى هذا الموضوع سماه «الصارم المسلول على شاتم الرسول- صلى الله عليه وسلم-» أحاط فيه فى هذه المسألة من كل جوانبها، فمن أراد المزيد فعليه به.