ذلك حديث خفي عن الناس جميعاً، مسلميهم ومشركيهم، فأي جُهد من التدبير، ونفاذ من الحيلة، بذلته تلك التي أنافت على المائة، وأشرفت على ثنية الوداع، حتى حسرت الحُجب عنه، فنقلته ولم تأمن على نقله ابنها مخرمة بن نوفل، وهو من لحمة النبي وذوي صحبته؟
أما لقد اتخذ الله المرأة يوم ذاك كما اتخذها من قبله آية لطفه الخفي، ووحي إرادته البالغة في أعظم حوادث الإسلام خطراً، وأبقاها أثراً، وأدومها على مَرّ الدهور ذِكراً، وأقومها ببناء الإسلام وأكْفلها بوضَح محجته، واستطارة دعوته.
تنقلت العظائم من يد طاهرة، إلى يد طاهرة. فبعد أن دعمت العجوز الفانية رُقيقة بنت صيفي أثرها، أقامت الفتاة الحدثة أسماء بنت أبي بكر أثرها.
لقد أعجل النبي وصاحبه عن ابتغاء الزاد، وشغَلهما الغرض الأسمى عن العَرض الأدنى فسارا خفيفين إلى غار في الذروة العليا من جبل ثور، إخفاء لأمرهما، وإعياء للذاهبين في أثرهما. فكانت أسماء تُمسيهما كل ليلة بالزاد والماء وبما عسى أن تكون قد سمعته، أو رأته، من حديث القوم وخبرهم
ثلاثة أميال إلا قليلا كانت تقطعها الصبية الناشئة في جوف الليل؛ ووحشة الطريق، بين أسنة الصخر، ومساخات الرمال، ماشية متخفية، حذرة مترقبة، حتى تصعد إلى هامة الجبل، ثم تنحدر في جوفه، فتوافي رسول الله وصاحبه، بما قصد له.
تلك هي الصبية التي تركت الوِلدان والولائد من لداتها وأترابها يغدون إلى ملاعبهم
ويأوون إلى صدور أمهاتهم، وذهبت إلى حيث يعجز أشداء الرجال وأبطالهم فأي قوّة تلك التي أمدها الله بها؟ وأي قلب ذلك الذي أودعه الله