حسبوا كل وزر كفراً يُقاتل مقترفه، ويقتل عليه. وكانوا في أول أمرهم قطعة من جند على. فلما رضى بالتحكيم في خلافته؛ قالوا: علام يقتتل المسلمون وأمراؤهم في شك من أمرهم؟! ومنذ ذلك اليوم انفصلوا عن علي، واستجازوا قتاله؛ وقتال من بعده من الخلفاء.
وحجتهم في الخروج على علي داحضة. فقد يكون التحكيم مما يبعثه اليقين بالحق، والثقة بالعناية. كذلك شرع الخوارج لأنفسهم قتال كل خليفة لأنه أتخذ خلافة رسول الله تراثاً عن أبيه. وحَسبَ المسلمون سواه هملا، فساقهم بغير عهد منهم ولا رضي. ذلك ما يقوله له الخوارج. ومهما يكن من أمرهم فقد استبسلوا في سبيل غايتهم وأصبحوا مضارب الأمثال في البسالة والجسارة.
وأوضح ظاهرة تراها في فريق الخوارج نباهة المرأة، ونزوعها منازع القادة الكفاءة، وقيامها في الطرف القصي من تفدية الغرض، والتضحية في سبيله.
وكم احتمل نساء الخوارج من ولاة العراق وسفاحيه من نكال ووبال، وتمزيق أوصال. فلم يكن شيء من ذلك يروعهنّ، ولا يثَلم غرضهنّ، أو يحول غايتهنّ، حتى تقاد المرأة إلى القتل صابرة راضية.
ولقد ظهر من الخوارج رجلان عظيمان، قاما واحداً بعد واحد. كلاهما اجتمع عليه القوم، وكلاهما لقب بإمرة المؤمنين. وكلاهما استمدّ من امرأته الجليل من رأيه: والشديد ممن قوته.
أما أوّلهما فقطري بن الفجاءة؛ كانت زوجه أم حكيم من أتم النساء ذكاء ومضاء
وجمال وجه، ونفاذ رأي، وقوة بيان. ومن قوله فيها:
لعمرك إني في الحياة لزاهد ... وفي العيش ما لم ألق أم حكيم