ذلكم الحافظ ابن عساكر المتوفى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، أوثق رواة الحديث عقدة، وأصدقهم حديثاً - حتى لقبوه بحافظ الأمة - كان له من شيوخه وأساتذته بضع وثمانون من النساء.
فهل سمع الناس في عصر من العصور، وأمة من الأمم أن عالماً واحداً يتلقى عن بضع وثمانين امرأة علماً واحدا؟ فكم ترى منهن من لم يلقها أو يأخذ عنها والرجل لم يجاوز الجزء الشرقي من الدولة الإسلامية، فلم تطأ أرض مصر، ولا بلاد المغرب، ولا الأندلس، وهي أحفل ما تكون بذوات العلم والرأي من النساء.
والحق الذي لا مراء فيه أن مزال النفس، ومنازع التهم، ونزعات الريب لا تجد مسرباً إلا في صدور الرجال، فإن دواعيها موفورة فيهم، مؤتشبة بين جوانبهم. فلهم من منازعة السياسة، ومجاذبة الرياسة، ومناصرة الآراء ومؤازرة الأهواء، والزلفى عند الملوك ومساومة قلوب العامة، ما لا سبيل إلى نفس المرأة وكل ذلك مما يميل بالرأي ويصدع ركن العقيدة.
ولم تقف التهمة بالرجل عند حدّ الدين وحده، بل لقد طمس أناس من الرجال معالم الشعر والأدب والتاريخ ووصف الأمم والمواطن وأسرار الكون ومظاهر الطبيعة. وإذا هان على المرء أن يكذب على الله، فأهون ما يكون أن يكذب على كل شيء سواه.
وإذا كان الصدق في النقل والعصمة من الهوى مما دعم قواعد الأثر العلمي للمرأة المسلمة وشاد جوانبه، فقد كان لها من صفاء فطرتها وقوة فطنها عماد وقوّة.
إن الذين يقولون بالفوارق في المقدرة بين الرجل والمرأة لينتقض رأيهم إذا هم استمعوا حديث النهضة العلمية الإسلامية.