فقامت إلى قعب فأفرغت فيه ماء، ونظفت غسله، ثم جاءت إلى الأعْنز فَتَغَبَّرتْهُنَّ حتى احتلبت قُراب مِلءِ القعب، ثم أفرغت عليه ماء حتى رغا وطفت ثُمالته كأنها غمامة بيضاء، ثم ناولتني إياه فشربت حتى تَحَبَّبْتُ ريّاً واطمأننت، فقالت إني أراك معتنزة في هذا الوادي الموحش والحلة منك قريب فلو انضممت إلى جنابهم، فأنست بهم؟
فقالت يا ابن أخي: إني لآنس بالوحشة، واستريح إلى الوحدة، ويطمئن قلبي إلى هذا الوادي الموحش فأتذكر من عهدت، فكأني أخاطب أعيانهم، وأتراءى أشباحهم وَتَتَخَيَّل لي أندية رجالهم، وملاعب وُلدانهم، ومُندَّى أموالهم، والله يا ابن أخي لقد رأيت هذا الوادي بشع اللديدين بأهل أدواح وقباب، ونعم كالهضاب، وخيل كالذَّئاب، وفتيان كالرماح يبارون الرياح، ويحملون الصَّباح، فأحال عليهم الجلاءُ قمّاً بغرفة، فأصبحت الآثار دارسة، والمحال طامسة. كذلك سيرة الدهر فيمن وثق به. ثم قالت: أرم بعينك في هذا الملا المتبطن فنظرت، فإذا قبور نحو أربعين أو خمسين فقالت: ألا ترى تلك الأجداث؟ قلت نعم. قالت: ما انطوت إلا على أخ، أو ابن أخ أو عم، أو ابن عم، فأصبحوا قد ألمأت عليهم الأرض، وانأ أترقب ما غلهم انصرف راشداً رحمك الله.