وهو لا يشك في أنها أرغب الناس فيه، وكانت تقول له: لو حججت بي فأمُرَّ على أهلي وأراهم؟ فحج بها، فأتى مكة ثم أتى المدينة فنزل في بني النَّضير - وكانت له بهم صلة وصداقة - وكان قومها يخالطون بني النضِير فأتوهم وهو عندهم، فقالت لهم سلمى: إنه خارج بي قبل أن يخرج الشهر الحرام فَتَعالوا إليه وأخبره أنكم تستحيون أن تكون امرأة منكم معروفة النسب صحيحتُهُ سَبِيةً وافتدوني فإنه لا يرى أني أفارقه ولا أختار عليه أحدا. فأتوه فسقوه الشراب. فلما ثمل قالوا له: فادِنَا بصاحبتنا فإنها وسيطة النسب فينا معروفته، وإن علينا سُبَّةً أن تكون سبية، فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها فعلنا. فقال لهم: ذلك لكم. ولكن لي الشرط فيها أن تخيروها، فإن اختارتني انطلقت معي إلى ولدها، وإن اختارتكم انطلقتم بها قالوا: ذلك لك. فلما كان الغد جاءوه فامتنع من فدائها. فقالوا له: قد فاديتنا بها منذ البارحة، وشهد عليك بذلك جماعة ممن حضر. فلم يجد إلى الامتناع سبيلا، وفاداها. فلما فادوه بها خيروها، فاختارت أهلها، ثم أقبلت عليه فقالت: يا عروة أما إني أقول فيك - وإن فارقتك - الحق: والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك. وأغَضَّ طرفاً، وأَقل فُحشاً، وأجودَ يداً وأحمى
لحقيقته. وما مَرَّ على يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أَحب إلى من الحياة بين قومك، لأني لم أشأ أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أَمةُ عروة كذا وكذا - إلا ما سمعته ووالله لا أنظر في وجه غَطْفَانية أبداً، فارجع راشداً إلى ولدك وأحسن إليهم.
فانصرف عنها حزيناً حسيراً. وفيها يقول قصيدته التي مطلعها:
أرقت وصُحبتي بمضيق عُمْقٍ ... لبرق من تهامة مُستطير
سقى سلمى وأين ديار سلمى ... إذا كانت مجاورة السَدير