عبد الرحمن ابن الحكم صاحب الأندلس، فاستقدم منهنّ جماعة عرفن بالأدب الغض والشعر الرائع والغناء البديع، وابتنى لهن دار الدنيات بقرطبة وأجرى عليهن
المثوبة واللطاف وأوسعهن بالبر والإكرام، ومن هؤلاء: فضل وعلم وقلم. وقد عرف هؤلاء جميعاً بشرف النفس ونبل الخلق وكمال الخلال. ولم يكن فيهن ما في بنات الروم والصقالبة والجلالقة من خلابة ودعابة فهنّ لا يصلحن لذلك وفيهن السوداء والحمشاء والعجفاء، ولكنهنّ مع ذلك كنّ مشرقاً من مشارق الجمال الفني في تلك البلاد. ولقد يجمل بنا أن نسوق حديثا عن إحدى هؤلاء الوافدات وتسمى بالجارية العجفاء لتعلم إلى أي حد بلغ أولئك الجواري في التأثير على نفوس أهل الأندلس.
قال الأرقمي: قال لي أبو السائب - وكان من أهل الفضل والنسك - هل لك في أحسن الناس غناء؟ فجئنا إلى دار مسلم بن يحيى مولى ابن زهرة، فأذن لنا فدخلنا بيتا عرضه عشر ذراعا في مثلها، وطوله في السماء ستة عشر ذراعا، وفي البيت نُمْرُقتان قد ذهبت عنهما اللحمة وبقي السَّدى وقد حشيتا بالليف، وكرسيان قد تفككا ممن قدمهما، ثم أُطلقتْ علينا عجفاء كلفاء عليها هَرَوى أصفر غسيل وكأن وَرِكها في خيط من وسخهما، فقلت لأبي السائب: بأبي أنت ما هذه؟ فقال اسكت! فتناولت عوداً فغنت:
بِيَدي الذي شغف الفؤاد بكم ... تفريج ما ألقى من الهم
فاستيقني أنْ قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم
قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل اليوم بالصرم