للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى الرغم من تكاثر الديارات وانشعاب مواطنها وترامي قواصيها وتباين بلادها كانت كلها على نسق واحد من الجمال الغض الذي تنساق النفوس الزكية إليه ويحلو العيش فيه. فهنالك في نجوة من الأرض تجد خميلة من الزهر فعكفت عليها ظُلة من الكرم وانبعثت من ورائها أصوات ندية بجَمَّلها إيقاع جاوز غاية الإبداع؛ منظر يستهوي السمع والبصر ويستخف الأجسام والأحلام، حتى إذا دخلها الداخل - وهي لا تمتنع على قاصد - وجد النسيم بارداً خفاقاً والماء صافياً

سلسالاً والخمر صرفاً معتقة، ووجد فوق ذلك كله إن شاء طعاماً هانئاً ومناماً هادئاً، وليس ذلك بشيء في جانب ما يسلب نهاهم من وَلهَ العشق وفتنة الجمال.

ولشدّ ما غشيت تلك الديار بذوي الأخطار من خلفاء الودلة وأمرائها وساستها ووزرائها وكتابها وشعرائها، فكان لهم منها مآرب طيب وجدوا فيه كل ما تشتهي النفس من مطاعم ومشارب وأغراض ومأرب ينبئك عنها ما سار من شعرهم في وصف تلك الديارات وأفنائها وحسناتها وما أصابهم تحت ظلالها من حب شرد أحلامهم وسهّد أجفانهم وأحرق أكبادهم، وبين هذه المنايا وتلك النمى أثيرت روح الشبهات على الإسلام وعصفت ريح الزندقة والإلحاد. وليس من الحق أن نتهم العلم الذي نقله العرب عن أمم الحضارة بإثارة الشكوك والرَّيبِ فما عرف عن أئمة هذه العلوم إلا الدين الصريح الصحيح، وإنما الملحدون جماعة من الشعراء والمتأدبين والمتبطلين وأشباه المتعلمين ممن ألفوا غشيان تلك الديارات وأقاموا فيها ما أقاموا ثم انثنوا عنها بلا قلب ولا لب ولا دين ولا عقيدة. على أن الذي يعنينا الآن من هذه الديارات أن العرب أصيبوا فيها بنوع من الفتنة أشجى قلوبهم وأطال عناءهم لأن هذا الجمال الذي رأوه لم يكن مما ابتذله عيونهم وملكته أيمانهم. وكثير من ذوي الرأي والعلم كان يذهب إلى تلك الديار فيقيم فيها ما شاء

<<  <  ج: ص:  >  >>