وكل ذلك ليس خليقاً بأن يمحو خبراً ذاع ويقطع حديثاً نمى، وكان أولى بابن خلدون حين ذكر للعباسية شرف المنصب وعلوّ النسب أن ينظر نظرة إلى الأمم فهي وحدها مرجع ما عليه البنت من علو أو هوان، بل مرجع ما عليه الولد من بعد همة أو فترو عزيمته، تلك الأم التي نزع الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم إليها بقوله أنا ابن العواتك من سُليم. وكل ما يتصل به من الأبناء من عظمة البيت وشرف الأسرة ونبل العشيرة إنما يتضاءل فيما يرتضعونه من أمهاتهم من لؤم وخمول. ومَن أم العباسة؟ أليست مغنية من القيان اشتراها المهدي وكان من أمرها أن أصبحت أم ابنته؟ أفي قدرة هذه أن تنشئ قناة تحفظ ما لبيتها العظيم من سموّ وجلال!
وإن النفس لا تطمئن لما ذكر ابن خلدون عن نكبة البرامكة، فإن المثْلَة الشنعاء التي مثلها الرشيد بجثمان جعفر من تمزيقه ثلاث فلذات وصلب كل واحدة على باب من أبواب بغداد بعد ما كان من فرط حبه له وتقريبه منه تقريباً لم يكن بين أخوين أليفين كل ذلك لا يكون إلا حين تتقد الغيرة وتهتاج الحفيظة ويصاب العرض، وما أظن ما قال القائلون من احتجان الأموال وممالأة بني علي بن أبي طالب إلا تمويهاً للأمر وإبلاغاً للعذر. ولو كان ذلك حقا لقتل البرامكة على سواء ولم يختص واحداً بالقتل ويترك الباقين رهائن السجن، بل لكان أولى بالقتل يحيى أبو جعفر لأنه هو الذي استنّ لبنيه سياسة الرفق والمودّة للعلويين.
وكان بيت المأمون يقوم وعلى العلم والحكمة، وعلى المرح والدعابة كذلك، وكانت ابنته خديجة تجدّ في أثر عمة أبيها عليه من إرسال الشعر في التشبيب وابتكار الغناء والتلحين، ومن قولها في خادم من خدم أبيها.
بالله قولين لمن ذا الرشا ... المثقل الردف الهضيم الحشا