ذلك بعض ما رثيت به الأندلس في القرن السادس الهجري أي قبل أن يحل بها القضاء الأخير بقرنين كاملين، فقد أخذ العدوّ يوغل في قلب البلاد وأخذ أولئك المتملكون يلقون إليه بالمودّة، ويتقدّمون إليه بالجزى، ويستعين به بعضهم على بعض، ومن لم يستعن به استصرخ المغيرين من ملوك فاس، وترك أهل الأندلس تلك القوى المتدافعة تتناجز على البلاد وراحوا يلهون ويلعبون، ويشربون ويطربون ويسبحون في مضمار الخلاعة أرسانا، ويستبقون في ميدان البطالة فرسانا، واستشرفوا إلى الجواري والروميات والمهاجرات المغربيات يتَسرّونهن ويستولدونهن، وغادروا المرأة الأندلسية تندفع فيما هم مندفعون، وتشرب بالكأس التي يشربون بها، فالتاثت الأخلاق، واضطربت الأعراق، وفترت الحمية، وضاع الحِفَاظ.
وبدءوا يتشبهون بالفرنجة فيما أمكنه أن يتشبهوا به، وماذا يملك الضعيف الذليل من التشبه بالقوى العزيز؟ ليس إلا المظاهر الجذابة من زي يبسطه عليه. أو كلمات من لغته يتقرّب بها إليه، أو إنحاء بالطعن على أهل ملته وعشيرته، أو لجاج في البراءة من آداب دينه وأمّته، فأما الدأب في العمل والإمعان في الثبات والتضحية في الواجب وفناء الواحد في عز الجماعة، والطاعة في غير ذل،
والبذل في غير رياء، فذلك ما لا يملك الضعيف أن يتشبه بالقوى فيه. لأن النفس واهنة، والعقل مضطرب. والقلب رخو مريض. وكذلك فعل الأندلسيون فقد غلوا في التشبه بالفرنج في عامة مظاهرهم، فلبسوا برانسهم، واعتمروا قلانسهم، ومضغوا ألفاظهم، وتزوّجوا الدنيات من نسائهم.
وأول من سن طريق الغلو في اقتفاء الهين القريب من مظاهر الفرنجة محمد ابن سعد بن مردنيش الجذامي أمير شرقي الأندلس في منتصف القرن السادس،