في صيف ١٣٢٩هـ كانت إحدى بواخر النيل تحمل العابرين غادية رائحة بين كفر الزيات ودسوق. ففي ذات مرة أخرج الرُّبان صدرها بمن احتملهم من قصاد المولد الدسوقي، فقذفها بضعفي ما تحمل.
سارت البواخر متعثرة تتحامل على نفسها وتضطرب في خطاها فما كادت تنكشف إلى عرض النيل قليلاً حتى آدها حملها، فانبتَّ عِقدها، وانحلت عُقدتها ومالت على نفسها، وتدفق الماء من منافذها. هنالك خرج الناس عن عقولهم، وتملكهم الفزع الأكبر، وظنوا أنهم أحيط بهم، فأخذوا يتدافعون على صدر النيل علَّهم يلقون يداً تدفعهم أو ترفعهم.
بين هذا الحفل المتماوج المتدافع تقطعت الأنساب، فلا أب ولا أم ولا زوج ولا ولد. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وفي ذلك الموطن الذي دارت عليه كؤوس
الموت مُترعة ظهرت امرأة لا تتلمس الشاطئ كما يتلمسون، ولا تُلَوَّح بيدها كما تلوحون بل كان كن شُغلها والموج يرفعها ويخفضها والموت يقبضها ويبسطها: أن نزعت خمارها، وأدرجت فيه ولدها، ثم لوحت به إلى زوجها، وقذفته على صفحة الماء مترافقة إليه وصاحت به متهدجة قائلة: -
خذ يا فلان فذلك وصيتي إليك. . .
قالت ذلك ثم غاصت بين طيات الماء بعد ان أسلمت وديعتها وأبرأت إلى الله نفسها. . .
إلى تلك المنزلة السامية رفع الله المرأة ليكل إليها أشرف منازل الحياة: منزلة