للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنهم من تعلموا في مدارس الدولة المنقطعة وتخلقوا بغير أخلاقهم، وانحلوا زمناً من قوميتهم فلا يفكرون ولا يتكلمون إلا بالتركية، ولا يكتبون إن كانوا ممن يحسبون الكتابة إلا بالتركية. فلما تبدلت الحالة السياسية بعد الحرب العامة دفعتهم الضرورة إلى ادعاء العربية وكانوا من قبل يعقونها وهم من أبنائها، زاعمين أنهم تبدلت أخلاقهم بمجرد الانتقال من دور إلى دور.

وليست الأخلاق بدلت تنزعها، ولا طلاء تزيله وتستبدل غيره به. ولما كان معظم من تعلموا هذه العلوم في العهد السابق من أهل الطبقات النازلة في أصولهم، كان الموروث ولهم والمائل فيهم من الأخلاق مثلاً من أخلاق أهل جرثومتهم، ولذلك هان عليهم ويهون في كل دور أن ينزلوا عن مشخصاتهم لأول طارئ. وهذه الفئة مضرة بأخلاقها أكثر من الجهال لأنها تعلمت تعليماً ممسوخاً ظنته كل شيء. ومذ فارقت المدارس التي تفاخر بأنها تحمل شهاداتها، وكثيراً ما نال شهاداتها المتوسط الغبي، ظنت أنها قبضت على قياد العلوم وودعت الكتب فصارت ترجح القهقري في معارفها الأولية وتجلت أخلاقها في كل ما عانته من الأعمال، فكانت إذا وسد إليها أمر تلتهم الأخضر واليابس، وإذا بدا لها طمع تهزأ بالفضائل إذا لم تجلب لها السعادة التي تتصورها.

رأى المجتمع من سقوط الأخلاق في بعض أهل هذه الطبقة ما تندى الجباة من تسجيله: رأى منهم من يقول ولا يخجل أنه إذا قيل لهم: إن الحالة الحاضرة

ستتبدل بعد عشرين سنة يفكر مذ الآن في أمر راتبه الذي قبضه من سلك ما كان يحلم أن يحشر في جمله أهله، ويقول أبداً: اعذروني إذا خدمت أغراض كل صاحب قوة كما يشتهي، وإذا كنت آله في كل ما يحب.

هو غني الجيب فقير النفس. جاهل يحشر نفسه في العلماء، والطبيعة تضعه حيث تريد.

ومنهم من جعل رأس ماله في مصانعه ولاة الأمر مهما كانوا والتقرب إليهم بكل حيلة، لينال مظهراً يظهر به، لاعتقاده واعتقاد كثيرين أن الشرف كل الشرف في التقرب من الحكام، وأن كل مجد جاء من غير طريقهم لا وزن له إذا نصبت الموازين، وهؤلاء المتصدرون أسوأ مثال لمن حولهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>