وكان الفرنج أول ما ملكوا من هذه الأرجاء الرُّها وما حولها من الحصون الفراتية قبل ملكهم إنطاكية والمعرة. وظلت بيروت في أيدي المسلمين إلى سنة ٥٠٣ حتى فتحها بغدوين بعد أن حاصرها حصاراً شديداً وقتل من أهلها عالماً كثيراً. ودام ملوك الفاطميين ينجدون الساحل والداخل بجنودهم، ولولاهم لتيسر للفرنج اكتساح هذه الأرجاء بمجرد سير جيوشهم الجرارة، وحالت أسوار المدن بينهم وبين ما كانوا يؤملون، وصحت نيات القائمين
بالأمر فيها، ولا سيما في المدن الداخلية، على الدفاع، فكانت هجمات العدو يُبددها في الغالب دفاع السكان على ضعف قواهم وتشتت أهوائهم، وموقف المدافع أسهل من موقف المهاجم.
ومن أهم الأحداث بعد دخول الفرنج إنطاكية خروج صاحبها بيمند سنة ٤٩٣ إلى حصن أفامية، فوصل الخبر إلى الدانشمند التركماني صاحب ملاطية وسيواس وعسكر قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش صاحب قونية وأقصرا، فقتل من عسكر الفرنج عدداً عظيماً، وحصل بيمند في قبضة الأسر مع نفر من أصحابه، ونفذت الرسل إلى نوابه في إنطاكية يلتمسون تسليمها. قال صاحب الكامل: لم يفلت أحد من الفرنج في هذه الوقعة وكانوا ثلاثمائة ألف غير ثلاثة آلاف هربوا ليلاً وأفلتوا مجروحين. ووصل كدفري صاحب بيت المقدس إلى عكا، وأغار عليهم فأصابه سهم فقتله، وكان قد عمر يافا وسلمها إلى طنكري، فلما قتل كدفري سار أخوه بغدوين القمص صاحب الرُّها إلى بيت المقدس في خمسمائة فارس وراجل، فجمع صاحبا دمشق وحمص الجموع ولقياه بالقرب من بيروت، فسارع نحوه صاحب حمص في عسكره فظفر به وقتل بعض أصحابه. وفيها افتتح الفرنج حيفا على ساحل البحر وأرسوف بالأمان وأخرجوا أهلها منها، وفتحوا قيسارية وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها وأعانهم الجنويون عليها. وكان الجنويون والبيزيون يبعثون كل سنة بمراكب إلى ثغور الشام.
وأرسل عبد الله بن صليحة المتغلب على ثغر جبلة إلى صاحب دمشق، يلتمس منه إنفاذ من يراه من ثقاته ليسلم إليه جبلة، فانتدب ولده تاج الملوك فتسلمها، وأساء هو وأصحابه إلى أهلها وظلموهم، فشكوا حالهم