للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا جرم أن سلاح الروم كان أمضى من سلاح العرب، ونظامهم الظاهري كان أجلى. قال سيديليو: كان جيش الروم يفوق جيش العرب بلباسه، وخبرة ضباطه، ونوع سلاحه، وغنى دور صناعاته ومناعة حصونه، وسهولة المواصلات والتموين عليه. والروم يعرفون الخطط ويمسكون البحر ولهم من ورائهم ولايات مأهولة مخصبة. أما العرب فكانوا جاهلين معدمين ليس لهم شيء من الأسباب المادية، ولا يحسنون من ضروب الحرب غير حروب العصابات على أصول البادية، وقد يعمدون إلى الفرار أحيانا، ويرى جيشهم لأول وهلة كأنه عصابات مجموعة كيفما اتفق: الفرسان وسط المشاة، ومن الجنود من يسترون بعض أجسامهم ومنهم العراة. وسلاح كل واحد كما يحب من قوس إلى حربة أو دبوس وسيف ورمح. قال: ووجه الغرابة أن يضيف العرب إلى المفاداة احترام النظام يضاف إليهما عظمة العواطف، وهم طالما وصموا بأنهم متوحشون ظلما وتعنتا.

قلنا: وهكذا كان شأن العرب في سائر فتوحاتهم في آسيا وإفريقيا وأوروبا، كانت معنوياتهم في كل مكان أرقى من معنويات من غلبوهم على أمرهم، ودون ماديات أمم كانت راسخة القدم في أرضها، عزيزة السلطان في ربوعها، وحاجياتها منها على طرف الثُّمام تأتيها بدون تعمل كثير. وكان العرب يتبلغون ودوابهم بميسور العيش. حتى إن خالد بن الوليد لما سار في جيشه من العراق إلى الشام من طريق

البرية لتخرج من وراء جموع الروم لأنه كان يرى أنه إذا استقبلها حبسته عن غياث المسلمين، سقى الجمال مرتين لقلة الماء في الطريق، فكلما نزل منزلا نحر وجعل أكراشها على النار وشرب القوم.

ومن أعظم العوامل في غلبة المسلمين خوف الهزيمة من الزحف، وكانت الهزيمة أو التخلف عن الجهاد من أعظم العار، بل من الكبائر التي لا يرحم فاعلها. فقد ذكروا أن فلَّ جيش مؤتة لما رجع إلى المدينة جعل الناس يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فرَّار فررتم في سبيل الله. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ليسوا بالفرار ولكنهم الكرّار إن شاء

<<  <  ج: ص:  >  >>