الخير كل الخير، والسر في هذه المرونة هنا، والتشدد في المواقف السابقة: أن المواقف الأولى تتعلق بالتنازل عن العقيدة والمبدأ، فلم يقبل فيها أي مساومة أو تساهل، ولم يتنازل قيد أنملة عن دعوته.
أما المواقف الأخيرة فهي تتعلق ببيان المرونة في الفقه الإسلامي، ومن هذا وذاك يتبين أن الفقه الإسلامي يجمع بين خاصتي الثبات والتطور.
ولا عجب بعد ما ذكرنا من هدي القرآن الكريم وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومواقف الصحابة -رضي الله عنهم-، من الثبات والمرونة؛ أن نجد الفقه الإسلامي بمختلف مدارسه ومذاهبه يسير في نفس هذا الاتجاه ثابتًا على الأصول والكليات، مرنًا متطورًا في الفروع والجزئيات. إنه لا يعطي المسلم حرية مطلقة في تنظيم حياته ولو على حساب عقائده وقيمه ومفاهيمه، كما أنه لا يقيده في كل شؤونه بتشريعات مفصلة دائمة، لا يستطيع الفكاك منها.
فالفقيه المسلم، مقيد حقًّا بالنصوص المحكمة الثابتة من القرآن والسنة، وهي المجزوم بثبوتها، القواطع في دلالتها، التي أراد الشارع الحكيم أن تلتقي عندها الأفهام، ويرتفع عندها الخلاف، وينعقد عليها الإجماع، فهي أساس الوحدة الفكرية والسلوكية، للمجتمع المسلم، وهي للأمة كالجبال للأرض تمسكها أن تميد، وتحميها أن تضطرب وتتزلزل، وهذا النوع من النصوص قليل جدًّا بالنسبة إلى سائر النصوص.
ومع هذا التقيد الملزم، يجد الفقيه المسلم نفسه في حرية واسعة أمام منطقتين فسيحتين، من مناطق الاجتهاد وإعمال الرأي والنظر (١).
(١) مقال من شبكة التربية الإسلامية، الشاملة (٢٠٠٣/ ٢٠٤، م) إشراف الأستاذ أحمد مدهار.