يكتبونه محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب اللَّه ﷾، فلما انتشر الإسلام، واتسعت البلاد، وتفرقت الصحابة في الأقطار، ومات معظمهم، وقل الضبط احتاج العلماء إلى:
تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخاطر يغفل، والقلم يحفظ فانتهى الأمر إلى زمن جماعة من الأئمة مثل عبد الملك بن جريج، ومالك ابن أنس، وغيرهما، فدونوا الحديث حتى قيل: إن أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج، وقيل:"موطأ مالك بن أنس"، وقيل: إن أول من صنف وبوب الربيع بن صبيح بالبصرة، ثم انتشر جمع الحديث، وتدوينه وتسطيره في الأجزاء، والكتب، وكثر ذلك، وعظم نفعه، إلى زمن الإمامين أبي عبد اللَّه محمد بن إسماعيل البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، فدونا كتابيهما، وأثبتا فيهما من الأحاديث ما قطعا بصحته، وثبت عندهما نقله، وسميا الصحيح من الحديث.
ولقد صدقا فيما قالا، واللَّه مجاز لهما عليه، ولذلك رزقهما اللَّه تعالى حسن القبول شرقًا وغربًا، ثم ازداد انتشار هذا النوع من التصنيف، وكثر في الأيدي، وتفرقت أغراض الناس، وتنوعت مقاصدهم إلى أن انقرض ذلك العصر الذي قد جمعوا وألفوا فيه مثل أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، ومثل أبي داود سليمان ابن الأشعث السجستاني، وأبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي وغيرهم؛ فكان ذلك العصر خلاصة العصور في تحصيل هذا العلم، وإليه المنتهي. ثم نقص ذلك الطلب وقل الحرص، وفترت الهمم فكذلك كل نوع من أنواع العلوم والصنايع والدول وغيرها؛ فإنه يبتديء قليلًا قليلًا، ولا يزال ينمو ويزيد إلى أن يصل إلى غاية هي منتهاه، ثم يعود، وكأن غاية هذا العلم انتهت إلى البخاري ومسلم، ومن كان في عصرهما ثم نزل وتقاصر إلى ما شاء اللَّه.