الطبقتين على سبيل الاستيعاب، ويخرج أحاديث أهل الطبقة الثالثة على النحو الذي يصنعه البخاري في الثانية، وأما الرابعة والخامسة فلا يعرجان عليهما. قلت: وأكثر ما يخرج البخاري حديث الطبقة الثانية تعليقا، وربما أخرج اليسير من حديث الطبقة الثالثة تعليقا أيضا، وهذا المثال الذي ذكرناه هو في حق المكثرين، فيقاس على هذا أصحاب نافع وأصحاب الأعمش وأصحاب قتادة وغيرهم، فأما غير المكثرين فإنما اعتمد الشيخان في تخريج أحاديثهم على الثقة والعدالة وقلة الخطأ، لكن منهم من قوي الاعتماد عليه فأخرجا ما تفرد به كيحيى بن سعيد الأنصاري، ومنهم من لم يقو الاعتماد عليه فأخرجا له ما شاركه فيه غيره، وهو الأكثر.
وقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح في كتابه في علوم الحديث، فيما أخبرنا به أبو الحسن بن الجوزي، عن محمد بن يوسف الشافعي عنه سماعا قال: أول من صنف في الصحيح البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، ومسلم مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنه يشارك البخاري في كثير من شيوخه، وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز.
وأما ما رويناه عن الشافعي ﵁ أنه قال: ما أعلم في الأرض كتابا في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك. قال: ومنهم من رواه بغير هذا اللفظ، يعني بلفظ: أصح من الموطأ، فإنما قال ذلك قبل وجود كتابي البخاري ومسلم، ثم إن كتاب البخاري أصح الكتابين صحيحا وأكثرهما فوائد. وأما ما رويناه عن أبي علي الحافظ النيسابوري أستاذ الحاكم أبي عبد الله الحافظ من أنه قال: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج، فهذا وقول من فضل من شيوخ المغرب كتاب مسلم على كتاب البخاري، إن كان المراد به أن كتاب مسلم يترجح بأنه لم يمازجه غير الصحيح، فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسرودا غير ممزوج بمثل ما في كتاب البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لم يسندها على الوصف المشروط في الصحيح، فهذا لا بأس به، وليس يلزم منه أن كتاب مسلم أرجح فيما يرجع إلى نفس الصحيح على كتاب البخاري، وإن كان المراد به أن كتاب مسلم أصح صحيحا فهذا مردود على من يقوله، والله أعلم، انتهى كلامه.
وفيه أشياء تحتاج إلى أدلة وبيان، فقد استشكل بعض الأئمة إطلاق أصحية كتاب البخاري على كتاب مالك، مع اشتراكهما في اشتراط الصحة والمبالغة في التحري والتثبت، وكون البخاري أكثر حديثا لا يلزم منه أفضلية الصحة، والجواب عن ذلك أن ذلك محمول على أصل اشتراط الصحة؛ فمالك لا يرى الانقطاع في الإسناد قادحا فلذلك يخرج المراسيل والمنقطعات والبلاغات في أصل موضوع كتابه، والبخاري يرى أن الانقطاع علة، فلا يخرج ما هذا سبيله إلا في غير أصل موضوع كتابه كالتعليقات والتراجم، ولا شك أن المنقطع وإن كان عند قوم من قبيل ما يحتج به، فالمتصل أقوى منه إذا اشترك كل من رواتهما في العدالة والحفظ، فبان بذلك شفوف كتاب البخاري، وعلم أن الشافعي إنما أطلق على الموطأ أفضلية الصحة بالنسبة إلى الجوامع الموجودة في زمنه؛ كجامع سفيان الثوري، ومصنف حماد بن سلمة، وغير ذلك، وهو تفضيل مسلم لا نزاع فيه، واقتضى كلام ابن الصلاح أن العلماء متفقون على القول بأفضلية البخاري في الصحة على كتاب مسلم، إلا ما حكاه عن أبي علي النيسابوري من قوله المتقدم، وعن بعض شيوخ المغاربة أن كتاب مسلم أفضل من كتاب البخاري من غير تعرض للصحة فنقول: روينا بالإسناد الصحيح عن أبي عبد الرحمن النسائي، وهو شيخ أبي علي النيسابوري، أنه قال: ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل والنسائي، لا يعني بالجودة إلا جودة الأسانيد كما هو المتبادر إلى الفهم من