«وأما من جهة المتن فتكذب شواهد الحال الأخلوقة تكذيباً لا مزيد عليه ... رجل يبعث من خراسان ليسأل أبا حنيفة عن مائة ألف مسألة بين عشية وضحاها ويجيب أبو حنيفة عنها بدون تلبث ولا تريث» .
«كذا قال، وليس في القصة أن الرجل سأل عن مسالة واحدة فضلاً عن مائة ألف، ولا أن أبا حنيفة أجاب عن مسألة واحدة فضلاً عن مائة ألف فضلاً عن أن يكون ذلك كله بين عشية وضحاها. وكان يمكن للأستاذ أن يجيب بجواب بعيد عن الشغب كأن يقول: يبعد جداً أو يمتنع أن تجمع في ذاك العصر مائة ألف مسألة ليأتي بها رجل من خراسان ليسأل عنها أبا حنيفة، وهذا يدل على أحد أمرين، إما أن يكون السائل إنما أراد: أتيتك بمسائل كثيرة فبالغ، وإما أن يكون بطالاً لم يأت ولا بمسألة واحدة، وإنما قصد إظهار التشنيع والتعجيز، فأجابه أبو حنيفة بذاك الجواب الحكيم، فإن الرجل إنما قصد التشنيع أو التعجيز، ففي ذاك الجواب إرغامه، وإن كان عنده مسائل كثيرة نظر فيها أبو حنيفة على حسب ما يتسع له الوقت ويجيب عندما يتضح له وجه الجواب.
فأما ابن عيينة فكان من الفريق الذين يكرهون أن يفتوا (وقد بين الأستاذ ذلك في التأنيب) فكأنه كره قول أبي حنيفة: هاتها، لما يشعر به من الاستعداد لما يكرهه ابن عيينة، وكان أبو حنيفة من الفريق الذين يرون أن على العالم إذا سئل عما يتبين له وجه الفتوى فيه أن يفتي، للأمر بالتبليغ والنهي عن كتمان العلم، ولئلا يبقى الناس حيارى لا يدرون ما حكم الشرع في قضاياهم، فيضطرهم ذلك إلى ما فيه فساد العلم والدين، ولا ريب أن الصواب مع الفريق الثاني وإن حمدنا الفريق الأول حيث يكف أحدهم عن الفتوى مبالغة في التورع واتكالاً على غيره حيث يوجد، فأما الجرأة فمعناها الإقدام والمقصود هنا كما يوضحه السياق وغيره الإقدام على الفتوى فمعنى الجرأة على الله هنا هو الإقدام على الإفتاء في دين الله، وهذا إذا كان عن معرفة موثوق بها فهو محمود وإن كرهه المبالغون في التورع كابن عيينة، وقد جاء عن ابن عمر أنه قال: «لقد كنت أقول: ما يعجبني جرأة ابن