فأقول: أما امتناع القول، فإن كان المراد أن قائل ذلك لا يبقى مسلماً فهذا لا يدفع هذه الحكاية، وإن كان المراد امتناع أن يقول ذلك إنسان ينتحل الإسلام فهذا لا وجه له، فقد غلا كثيرا من منتحلي الإسلام في أفراد فادعوا لهم العصمة أو النبوة أو الألوهية، وذلك معروف مشهور. وقد حكيت عن أبي حنيفة كلمات لا يبعد أن يسمعها بعض جهلة معظميه فيتوهم أن الحكام التي مردها إلى القضاة بمنزلة الرأي في مصالح الدنيا كتدبير الحروب والمعايش وقد قال الله تبارك وتعالى لرسوله:«وشاورهم في الأمر» وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»(١) وأنه ربما كان يرى الرأي في تدبير الحرب فيخبره بعض أصحابه بأن غيره أولى فيرجع إلى قوله، فمن تلك الكلمات ما حكى عنه في تلقيه من يذكر له حديثا يخالف قوله بمثل «من أصحابي من يبول قلتين، هذا حديث خرافة، لا آخذ به، دعنا من هذا. هذا رجز. هذا سجع. هذيان. حك هذا بذنب خنزير» وما عزي إليه من قوله: «لو أدركني النبي (في رواية: رسول الله) صلى الله عليه وسلم لأخذ بكثير من قولي» زاد في رواية «وهل الدين إلا الرأي الحسن؟» وقد ذكرها الأستاذ ص ٧٥ و٨٥. وهذه الكلمة قد يكون أريد بها أن كثيراً مما أقوله باجتهادي موافق للحق فلو كنت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لعلم صحة كثير من قولي وصوبه وحكم بما يوافقه كما يُروى من موافقات عمر أنه قد كان يرى الرأي أو يقول القول فينزل القرآن بموافقته. فأما قوله:«وهل الدين إلا الرأي الحسن» فالرأي الحسن حقاً هو المطابق للحكمة الحقة حق المطابقة وكذلك الدين. وقد زعم بعضهم أن أبا حنيفة إنما قال:«لو أدركني البتي ... » فصحف بعضهم فقال: «النبي» ثم رواها بعضهم بالمعنى فقال: «رسول الله» وجرى الأستاذ على هذا ولا بأس بالنظر فيه، قال الأستاذ:«وأما أصل الحكاية ... » فذكر طرفاً مما في (مناقب أبى حنيفة) للموفق المكي ج ٢ ص ١٠١ - ١٠٩ والرواية هناك من طريق عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي
(١) قلت: أخرجه مسلم في «صحيحه» من حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما. ن.