للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذه خلاصة هذه الدعوى، فما دوافعها وأسبابها؟

والجواب عن ذلك يتلخص في النقط التالية (١):

ا- المعروف أن الإمام أحمد اتجه أول حياته لدراسة الفقه، وتتلمذ على الإمام أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ-، ثم انصرف عن هذه الدراسة ولم تعجبه، لأنها تتعلق تعلقًا قويًا بالرأي. وبعد إنقطاعه عنها اتجه إلى الحديث والمحدثين، والتقى بهُشيم بن بشير الواسطي، ثم تابع لقاءاته بالمحدثين، بل إن الروايات تنقل: أنه لم يلتفت إلى المسائل التي حفظها من الإمام أبي يوسف أولاً، بل ركز جهده على الحديث، وقضى جل حياته في جمعه، ومتابعته، والإعتماد عليه، والبعد عن الرأي، وتتبع الأثر ما وجده.

٢ - هذه النزعة والإرتباط بالحديث والمحدثين أضفى عليه -رَحِمَهُ اللهُ- صفة المحدث أكثر من أي صفة أخرى، وذمه للرأي والتأويل ومن يعتمد على أقوال الرجال وتفريعاتهم مع إمكانه أخذ الحق من مصدره الأساسي أبعده - في زعم من قال بأنه ليس فقيهًا- عن الفقه والرأي.

فقد ذكر القاضي عياض -رَحِمَهُ اللهُ- في الفصل الذي عقده لترجيح مذهب مالك على غيره، ووجوب تقليد المذاهب التي نشأت في العالم الإسلامي واتباعها، وتكلم عن أصحابها، وبين ميزة كل منها، وقال عن أحمد وداود: كما أن أحمد وداود من العارفين بعلم الحديث، ولا تنكر إمامة أحد منهما فيه، لكن لا تسلم لهما الإمامة في الفقه، ولا جودة النظر في مأخذه، ولم يتكلما في نوازل كثيرة كلام غيرهما، وميلهما مع المفهوم من الحديث.

٣ - ثبت عنه في أكثر من موضع أنه كان ينهى أصحابه عن أن يكتبوا عنه شيئًا وخاصة في مسائله وفتاواه، وهذا وارد في أكثر من موضع في ترجمته، وفيما كتب عنه. بل قد صرح في بعض المناسبات أنه لما سمع أحد أصحابه يحدث عنه بالمسائل التي أفتى فيها وينشرها في خراسان، جمع عددًا من أصحابه، وقال: أشهدكم أني رجعت عنها، وكان يكره أن يُتخذ كلامه دينًا وشرعًا (٢).


(١) أصول مذهب الإمام أحمد، د. عبد الله التركي، ص: ٨٣ - ٨٨.
(٢) سبقت الإشارة إلى هذه القصة والتعليق عليها في الطور الثالث من حياة الإمام.