للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قدوة صالحة لإخوته وذريتهم من بعدهم، فكان لا يكاد يسمع بجنازة إلا حضرها، ولا بمريض إلا عاده، ولا جهاد إلا خرج فيه. وكان يقرأ في الصلاة في كل ليلة سُبُعًا مرتلًا، ويقرأ في النهار سُبُعًا بين الظهر والعصر، وكانت التزاماته اليومية بالصلاة والدعاء والأذكار تملأ وقتًا طويلًا من الليل والنهار. وكان يزور القبور كل جمعة بعد العصر، ولا ينام إلا على وضوء، ولا يترك غسل الجمعة، ولا يخرج إلى الجمعة إلا ومعه شيء يتصدق به، وكان يحمل همَّ أصحابه، ومن سافر منهم تفقد أهله، وكان يتفقد الأشياء النافعة مثل النهر والسقاية، وغير ذلك مما فيه نفع للمسلمين (١). وكان أخوه الموفق يقول: هو شيخنا، ربَّانا وأحسن إلينا، وعلمنا وحرص علينا، وكان للجماعة، كالوالد يقوم بمصالحهم، وهو الذي هاجر بنا، وسفَّرنا إلى بغداد، وبنى الدير ... إلخ (٢).

[أشهر الفقهاء الشاميين الذين خدموا المذهب]

لقد ازدهر المذهب الحنبلي وتبلور تبلورًا دقيقًا على أيدي علماء الشام، ولا يزال الموجع والمعول على جهودهم إلى يومنا هذا. ولتجلية هذه الحقيقة والكشف عن مكنونها نعرف بأشهر من كان له منة في ذلك، مع التركيز على إبراز الجوانب التي تخدم بحثنا هذا من تراجمهم.

فمن أولئك الأفذاذ:

[- موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي (٥٤١ - ٦٢٠ هـ)]

كان من المهاجرين مع أبيه وإخوته من جمَّاعيل إلى دمشق، ومنها رحل إلى بغداد مرتين، كانت الأولى مع ابن خاله عبد الغني، تعلم الفقه والزهد من الشيخ عبد القادر الجيلي. فلما توفي، انتقل الموفق إلى حلقة أبي الفتح ابن المنّي، فتعلم منه فقه المذهب، والفقه المقارن، وأصول الفقه، حتى برع في تلك الفنون، وتمكن منها، فتمهد له الطريق إلى شرح "مختصر الخرقي" الذي كان يحفظة منذ صغره، فبدأ في تأليف الموسوعة الموسومة بـ "المغني" في حدود سنة ٥٧٦ هـ، فأتمه بتوفيق الله تعالى وقرأه عليه بعض تلامذته.


(١) ذيل الطبقات ٢/ ٥٣.
(٢) المصدر السابق ٢/ ٥٧.