للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَمْهِيدْ

رسمنا هذا الدور بعنوان "دور النقل والنمو". وهو دور يترتب فوق "دور التأسيس والتدوين" مباشرة، فالمذاهب الفقهية على اختلافها دونت بعد نشأتها، ثم نقلت وأخذت تنمو قليلًا قليلًا، وتتكامل مع الزمان، وفي أعقاب هذا الدور أخذت عبارات النقل ومصطلحاته تلوح في الأفق، وأخذت الروايات والوجوه تتمايز قوة وضعفا، وصحة وسقمًا، من حيث انتسابها إلى الإمام المجتهد وأصحابه. فهناك الصحيح، والأصح، والضعيف، والشاذ، والمنكر من الأقوال والوجوه.

والنقل للفقه مسؤولية صعبة وأمانة ذات حمل ثقيل، إذ تعتبر طرق النقل والرواية مظنة للخطأ والغلط والإلتباس، بل والكذب في بعض الأحيان، فكان لابد من ضبط قواعد نقل الفقه وروايته، لئلا يضيع بين تلك الأخطاء والأغلوطات والأوهام التي تعرض للرواة عادة، وقد عالج منها نقاد الحديث وصيارفته من قبل معالجة لا تخفى.

وفي مجمل هذه القواعد والشروط اللازمة في نَقَلَة الفقه الإسلامي على وجه العموم ننقل إليك كلام الجويني بحرفه لما فيه من النفائس. فقد قال -رَحِمَهُ اللهُ-:

"لا يستقل بنقل مسائل الفقه من يعتمد الحفظ، ولا يرجع إلى كيس وفطنة وفقه طبع. فإن تصوير مسائلها أولًا، وإيراد صورها على وجوهها لا يقوم بها إلا فقيه. ثم نقل المذاهب بعد استتمام التصوير لا يتأتى إلا من مرموق في الفقه خبير، فلا ينزل نقل مسائل الفقه منزلة نقل الأخبار والأقاصيص والآثار. وإن فُرض النقل في الجليات من واثقٍ بحفظه، موثوق به في أمانته، لم يمكن فرض نقل الخفيات من غير استقلال بالدراية.

فإذا وضح ما حاولناه من صفة الناقل، فالقول بعد ذلك فيما على المستفتين. فإذا وقعت واقعة، فلا يخلو إما أن يصادف النقلة فيها جوابًا من الأئمة الماضين، وإما أن لا يجدوا فيها بعينها جوابًا. فإن وجدوا فيها مذهب الأئمة منصوصًا عليه نقلوه واتبعه المستفتون".