لم نر ضرورة تدعو إلى تقسيم فترة ما بعد نهاية القرن الرابع إلى يومنا هذا إلى أكثر من دور واحد، وذلك لأن الأعمال الأساسية في تحرير المذاهب الإسلامية الفقهية التي دونت وانتشرت، أصبحت منجزة ومستكملة في حدود نهاية القرن الرابع، ولذلك لم يبق لمن جاؤوا بعدهم من العلماء إلا الترتيب الفني والجمع بين الكتب والمصنفات، والموازنة في نطاق الرواية والحكايهَ للخلاف، وغير ذلك من الأعمال التي سنشير إليها في مواضعها المناسبة إن شاء الله تعالى.
ولا شك أن المذهب الحنبلي انتشر انتشارًا متاخراً عن بقية المذاهب التي كانت في ذات الوقت تتعرض للإنحسار والإنقراض من بعض الأمصار. وفي ظل هذا الإنتشار كان المذهب الحنبلي يتطور نحو الأحسن، ويتوجه نحو الإزدهار والقوة والتمكن في أصوله وفروعه ومناهجه. ولذلك لا نتفق مع الشيخ محمد بن الحسن الحجوي حين عَمَّم في وسم هنا الطور بأنه "طور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم"(١)، فإن هذه الشيخوخة، وهذا الهرم إن لزم بعض المذاهب، فإنه لا يلزم المذهب الحنبلي، لأننا إذا رجعنا إلى كتب المذاهب المعتمدة إلى يومنا هذا، فإننا نجد سائر المذاهب لا زالت نحتفظ بكتب المتقدمين "كالمدونة" عند المالكية، ومختصري الطحاوي والقدوري عند الحنفية، و"الأم" عند الشافعية، أما المذهب الحنبلي فإنه لا يكاد يعرف إلا من خلال مؤلفاته التي صنفها الأئمة فيما بعد القرن الرابع. وهذا يدل بصفة عامة على مدى الجهود المبذولة في تنمية هذا المذهب وتقويته على مدى القرون الثلاثة الأولى من هذا الدور على الأقل.
ويبدو أن بداية هذا الدور تميزت بفجوة أخذت لتكون وتتنامى في صفوف العلماء، وهي انقسام العلماء إلى فقهاء ومحدثين.