وهذا لا حجة فيه، لَما عَلمنا من أن الروايات عديدة في مذهب الإمام أحمد، حتى إننا لو اعتبرنا تلك الروايات مذهباً له على إطلاقها دون إعمال قواعد الترجيح والإعتماد والتمييز، إذاً لإستغرق مذهبه الخلافَ الموجودَ بين الصحابة والتابعين، ولم يبق من تفردات الإمام أحمد المطلقة عن بقية المذاهب إلا النادر الذي لا يلتفت إليه عادة.
ولا شك في أن شيخ الإسلام وليد المدرسة الحنبلية، وأنه من أتقن الناس معرفة بمذهب إمام السنة أصولاً وفروعاً، فهذا لا يجادل فيه أحد، ولا مجادلة في أن تفردات ابن تيمية عن المذهب الحنبلي قليلة. وكذلك عن المذاهب الأربعة هي أقل، ولكن ذلك لا يمنع من صحة ما ترجح، لأن الإنسان مهما اجتهد في الأزمنة المتأخرة، فإنه لابد أن ينتهي إلى ما يوافق أحد المذاهب الأربعة، ولو في قول مرجوح، أو في وجه من الوجوه، أو في إحدى الروايات التي لم يعتمدها المتأخرون. وذلك لا يعد مانعاً من أن يبلغ العالم من المتأخرين ما بلغه المتقدمون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
• منهج ابن تيمية في الفتوى والإجتهاد:
ويسلك شيخ الإسلام في منهاجه العام في الإجتهاد والفتوى مسلك الإمام أحمد، وأصوله العامة، لأنها أصح الأصول في نظره، كما أنه يضيف إلى ذلك أصول أهل المدينة وعلى رأسهم إمام دار الهجرة مالك بن أنس -رَحِمَهُ اللهُ-، وهو يعتبر أصولهم راجحة على أصول غيرهم، وأنها تتشابه في الجملة مع أصول الإمام أحمد.
هذا ما يلحظ من خلال تفحص فتاويه ومباحثه المتعلقة بالمذاهب، فقد قال بصدد ترجيح أصول الإمام أحمد ما نصه:
"ومن كان خبيراً بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل، وإن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع، وأحمد كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصا كما يوجد لغيره، ولا يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه قول يوافق القول الأقوى، وأكثر مفاريده التي لم يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها راجحاً، كقوله بجواز فسخ الإفراد والقِران إلى التمتع، وقبوله شهادة أهل الذمة على المسلمين عند الحاجة ... وأما ما يسميه بعض الناس مفردة لكونه انفرد بها