يتميز مذهب الإمام أحمد عن بقية المذاهب الأخرى بأنه دُوِّنَ، وحُرِّرَ، ونُقّحَ، في فترة زمنية شملت عدة طبقات من أصحابه، لذلك نجد هذا المذهب غنيًا بالمجتهدين الذين عاشوا في القرون: السادس والسابع والثامن، فضلاً عن المتقدمين، وذلك من أمثال: أبي الخطاب، وابن عقيل، وابن الجوزي، وموفق الدين ابن قدامة المقدسي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، وغيرهم (١).
فهؤلاء أثروا المذهب بالتأليف والترجيح للروايات، والإستدلال عليها، والتفريع والتخريج.
والسبب في تمدد عمل التدوين والتحرير والتنقيح على مدى تلك الفترة الطويلة التي كان لها فضلٌ كبير في توفر عدد كبير من المجتهدين في هذا المذهب الجليل، السبب في ذلك يعود إلى نشأة المذهب في ذاته، وكيفية تكوّنه في أيامه الأولى.
وفحوى ذلك: أن الإمام أحمد كان لا يرضى لنفسه ولا لأحدٍ من تلامذته أن يُدوّن كلامه، بل كان يفضّل أن لا تُدون آراء الرجال، وأن الإكتفاء بتدوين السنة بما فيها من المرفوع والآثار الموقوفة على الصحابة، بالإضافة إلى اجتهادات التابعين، كان يرى أن ذلك يُغني عن آراء الرجال الذين جاءوا من بعدهم. فكان من شأن موقف الإمام أحمد هذا أن اختلفت الرواية في نقل فتاويه واجتهاداته وسائر آرائه اختلافاً أدى إلى تميز هذا المذهب بتعدد الأقوال المنصوصة، ونما المذهب فيما بعد في طي هذا التعدد، بالإضافة إلى الوجوه المخرجة للأصحاب، الأمر الذي أتاح لمجتهدي الترجيح والإختيار مجالاً رحباً في توظيف آلة الإجتهاد وإعمال النظر والتحقيق. وتلك كانت سمة من سمات المذهب الحنبلي وفّرت مساحة اجتهادية أمام فقهاء المذهب في مختلف طبقاتهم.