بالإضافة إلى ذلك، فإن الأقوال القديمة للإمام أحمد، وهي الأقوال المرجوع عنها، لم يكن الأصحاب ليتصرفوا بشأنها بالطرح والنسيان، ولم يعاملوها معاملة المنسوخ، بل وضعوها على بساط البحث والنظر، لتشكل آراء أخرى منسوبة إلى مَن قال بها من أصحاب الوجوه، وفي ذلك يقول الطوفي:
قيل: قد كان القياس أن لا تُدون تلك الأقوال -يعني الأقوال القديمة المرجوع عنها- وهو أقرب إلى ضبط الشرع، إذ ما لا عمل عليه لا حاجة إليه، فتدوينه تعب محض، لكنها دُونت لفائدة أخرى، وهي التنبيه على مدارك الأحكام واختلاف القرائح والآراء، وأن تلك الأقوال قد أدى إليها اجتهاد المجتهدين في وقت من الأوقات، وذلك مؤثر في تقريب الترقي إلى رتبة الإجتهاد المطلق أو المقيد، فإن المتأخر إذا نظر إلى مآخذ المتقدمين نظر فيها، وقابل بينها، فاستخرج منها فوائد، وربما ظهر له من مجموعها ترجيح بعضها، وذلك من المطالب المهمة، فهذه فائدة تدوين الأقوال القديمة عن الأئمة، وهي عامة.
وَثَمَّ فائدة خاصة بمذهب أحمد، وما كان مثله، وذلك أن بعض الأئمة، كالشافعي ونحوه نصُّوا على الصحيح من مذهبهم، إذ العمل من مذهب الشافعي على القول الجديد، وهو الذي قاله بمصر، وصنف فيه كتاب الأم ونحوه. ويقال: إنه لم يبقَ من مذهبه شيء لم ينص على الصحيح منه إلا سبع عشرة مسألة، تعارضت فيها الأدلة، واختُرم قبل أن يحقق النظر فيها، بخلاف الإمام أحمد ونحوه، فإنه كان لا يرى تدوين الرأي، بل همه الحديث وجمعه، وما يتعلق به، وإنما نَقَلَ المنصوصَ عنه أصحابُه تلقياً من فيه، من أجوبته في سؤالاته وفتاويه، فكل من روى منهم عنه شيئاً دونه، وعُرِف به، كمسائل أبي داود، وحرب الكرماني، ومسائل حنبل، وابنيه صالح، وعبد الله، وإسحاق بن منصور، والَمرُّوذِي، وغيرهم ممن ذكرهم أبو بكر في أول "زاد المسافر" وهم كثير، وروى عنه أكثر منهم، ثم انتدب لجمع ذلك أبو بكر الخلَّال في "جامعه الكبير"، ثم تلميذه أبو بكر في "زاد المسافر"، فحوى الكتابان علماً جمّاً من علم الإمام أحمد - رضي الله عنه -، من غير أن يُعلم منه في آخر حياته الإخبار بصحيح مذهبه في تلك الفروع، غير أن الخلَّال يقول في بعض المسائل: هذا قولٌ قديمٌ