للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ووقع البعد من الكتاب بازدياد تأخر اللغة، وأصبحت الشريعة هي نصوص الفقهاء وأقوالهم، لا أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - " (١).

وهذا الذي صوره الحجوي، وإن كان طابعاً عاماً، إلا أنه ليس كلياً، فقد ظهر في هذا القرن كوكبة من أعظم الفقهاء، وهم وإن صُنفوا في طبقات أحد المذاهب إلا أنهم كانوا يجتهدون ويأنفون من التقليد، كأبي القاسم الداركي الشافعي البغدادي وأحمد بن ميسر المالكي القرطبي، وأبي جعفر الطحاوي الحنفي.

فقد قال الخطيب البغدادي في ترجمة الداركي: "كان عبد العزيز بن عبد الله الداركي إذا جاءته مسألة يُستفتى فيها تفكر طويلاً ثم أفتى فيها، وربما كانت فتواه خلاف مذهب الشافعي وأبي حنيفة - رضي الله عنهما -، فيقال له في ذلك، فيقول: ويحكم حدث فلان عن فلان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بكذا وكذا، والأخذ بالحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أولى من الأخذ بقول الشافعي وأبي حنيفة - رضي الله عنهما - إذا خالفاه" (٢).

وقال ابن فرحون في ترجمة أحمد بن ميسر: "مشاور في الأحكام يميل إلى النظر والحجة، ربما أفتى بمذهب مالك حفظاً حسناً واعتنى بكتب الشافعي، وكان يميل إليه، وكان إذا استفتي ربما يقول: أما مذهب أهل بلدنا فكذا، وأما الذي أراه فكذا" (٣).

وعلى الرغم من أن الفقه نزل من درجة الإجتهاد المطلق إلى درجة الإجتهاد المذهبي والتقليد البحت، فإن العلوم الإسلامية الأخرى قد ازدهرت وتكاملت، وبلغت حد النضج في هذا القرن على وجه الخصوص، وذلك كعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم اللغة، والأصول والجدل والمناظرة. كل تلك الفنون الخادمة للفقه، والمغذية لأدلته ورسم مناهجه وقواعده، كانت قد مهدت الطريق إلى التدوين


(١) الفكر السامي ٢/ ٥.
(٢) تاريخ بغداد ١٠/ ٤٦٤. قال الذهبي في "السير"١٦/ ٤٠٥: قلت: هذا جيد، لكن بشرط أن يكون قد قال بذلك الحديث إمام من نظراء هذين الإمامين مثل مالك، أو سفيان، أو الأوزاعي، وبأن يكون الحديث ثابتاً سالماً من علة، وبأن لا يكون حُجة أبي حنيفة والشافعي حديثاً صحيحاً معارضاً للآخر. أما من أخذ بحديث صحيح وقد تنكبه سائر أئمة الإجتهاد، فلا، كخبر "فإن شرب في الرابعة فاقتلوه" وكحديث "لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده". اهـ.
(٣) الديباج المذهب في أعيان المذهب، لإبن فرحون، ص ٣٤، ط. الكتب العلمية.