للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أهل المدينة أصح مذاهب أهل المدائن، فإنهم كانوا يتأسون بأثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من سائر الأمصار، وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم في العلم بالسنة النبوية واتباعها ... ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة ... فأما الأعصار الثلاثة المفضلة، فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة ألبتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين، كما خرج من سائر الأمصار ... وهذا باب يطول تتبعه، ولو استقصينا فضل علماء أهل المدينة وصحة أصولهم لطال الكلام. إذا تبين ذلك، فلا ريب عند أحد من أن مالكا - رضي الله عنه - أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه ...

وأما الحديث فأكثره نجد مالكا قد قال به في إحدى الروايتين، وإنما تركه طائفة من أصحابه، كمسألة رفع اليدين عند الركوع والرفع منه. وأهل المدينة رووا عن مالك الرفع، موافقاً للحديث الصحيح الذي رواه ... إذ قلَّ من سنة إلا وله قول يوافقها، بخلاف كثير من مذهب أهل الكوفة، فإنهم كثيراً ما يخالفون السنة، وإن لم يتعمدوا ذلك.

ثم من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما". اهـ.

ثم ساق شيخ الإسلام في آخر البحث أمثلة كثيرة مما ذهب إليه أهل المدينة في العبادات والمعاملات والجنايات، وانتصر إليه بالحجة والدليل والنظر إلى مقاصد الشريعة وحكمة التكليف، وهو في ذلك كله ينظر بالمنظور الحنبلي، ويزن بميزانه، مما يدل في النهاية أن ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- جمع بين أصول الحنابلة وأصول أهل المدينة، وجعلها منهاجاً يسير عليه في الفتوى والإجتهاد والترجيح بين أقوال العلماء في الكليات والجزئيات.