سميت حين سكنت: مدينة السلام، فليس في الأرض مدينة على هذا الاسم غيرها، وكان بعض إخواننا إذا ذكرها يقرأ قول الله تعالى:{بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}[سبأ: ١٥].
قال أبو الحسين: هذا إلى تركنا ذكر أشياء كثيرة من مناقبها التي أفردها الله بها دون سائر الدنيا شرقا وغربًا، ويين ذلك من الأخلاق الكريمة، والسجايا المرضية، والمياه العذبة الغدقة، والفواكه الدمثة، والأموال الجميلة، والحذق في كل صنعة، والجمع لكل حاجة، والأمن من ظهور البدع، والاغتباط بكثرة العلماء والمتعلمين، والفقهاء والمتفقهين، ورؤساء المتكلمين، وسادة الحساب والنحوية، ومجيدي الشعراء، ورواة الاْخبار والأنساب، وفنون الآداب، وحضور كل طرفة، واجتماع ثمار الأزمنة في زمن واحد، لا يوجد ذلك في بلد من مدن الدنيا إلا بها، سيما زمن الخريف. ثم إن ضاق مسكن بساكن وجد خيرًا منه، وإن لاح له مكان أحب إليه من مكانه لم يتعذر عليه النقلة إليه من أي جانب من جانبيه أراده، ومن أي طرف من أطرافه خف عليه.
ومتى هرب أحد من خصمه وجد من يستره في قرب أو بعد، وإن آثر أن يستبدل دارًا بدار أو سكة بسكة أو شارعًا بشارعِ أو زقاقًا بزقاق وغير ذلك من التبديل اتسع له الإمكان في ذَلك حسب الحَالة والوقت. ثم عيون التجارًا المجهزين والسلاطين المعظمين، وأهل البيوتات المبجلين في ناحية ناحية، تنبعث الخيرات بهم إلى الذين هم في الحال دونهم غير منقطع ذلك ولا مفقود، فهي من خزائن الله العظام التي لا يقف على حقيقتها إلا هو وحده (١).
هكذا كان مسقط رأس الإمام أحمد ومهد أيامه الأولى، وفيها كان مستقره من بعد الرحلات التي قضاها في حواضِرِ العالم الإسلامي طلبًا للعلم وحرصًا على جمع الحديث من أئمته وأساطينه.
* * *
(١) تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي ١/ ٥٠ - ٥١. دار الكتاب العربي.