المتوقع من شدة المخالطة إلى نفرة منه باستخدام الوازع الجِبِلي بدلاً من الوازع الديني لتعذر سدِّ الذريعة في هذه المخالطة بما قرّره فخر الدين.
وليس من العسير قلبُ الوازع الديني إلى وازع جبلّي بتحذير العقاب وبث التشنيع في العادة. فإن كثيراً من الأمور التي تظهر في صورة الجبليات ما كانت إلَّا تعاليم دينية، مثل ستر العورة، ومحرمية الآباء والأبناء. وقد نجد مباحاتٍ مذمومةً يتنزَّهُ الناس عنها لمذمَّتها. فقد كان أهل الجاهلية يبيحون تزوج الابن زوجة أبيه بعد موته، ومع ذلك فهم يسمُّونه نكاح المقت. وقد قيل لأبي علي الجبائي (١): إنك ترى إباحة شرب النبيذ وأنت لا تشربه فقال: "تناولتْه الدعارةُ. فسمج في المروءة".
ولعلماء الشريعة نسجٌ على منوالها هذا عند قصد المبالغة في سدّ الذريعة. فقد قال مالك رحمه الله بنجاسة عين الخمر، وهو يعلم أن الله إنما نهى عن شربها لا عن التلطخ بها. ولكنه حصل له من استقراء السنّة ما أفاده مراعاةَ قصدِ الشريعة الانكفاف عن شربها. وإذا كان ذلك عسِرًا لشدّة ميل النفوس إليها بكثرةِ ما نَوَّه الشاربون بمحاسن رقتها ولونها أراد تقوية الوازع الديني عن شربها بإشراب النفوس معنى قذارتها وجعلها كالنجاسات، في حين أنه لم يقل بنجاسة الخنزير الحي. وقد صار من أمثال عامة بلدنا إذا أرادوا نسبة
(١) هو أبو علي محمَّد بن عبد الوهاب الجبائي ٢٣٥ - ٣٠٣ بِجُبّى، قرية من قرى البصرة. من أكابر دعاة الاعتزال، وإليه تنسب الطائفة الجَبائية. درس على أبي يعقوب الشحام شيخ معتزلة البصرة. له: تفسير بلغة أهل بلده، والرد على الراوندي، وكتاب الأصول. وهو الذي استهدفه الأشعري بردوده بعد انصرافه عن الاعتزال. محمَّد يوسف موسى. الجبائي، دائرة المعارف الإِسلامية: ٦/ ٢٧٠؛ الزركلي: ٦/ ٢٥٦.